dark_mode
  • الخميس ٢٥ / أبريل / ٢٠٢٤
على منصة الإعدام ..!!

على منصة الإعدام ..!!

عندما كنت طفلًا بعمر الأربع ٤ سنوات إبان الغزو العراقي للكويت، ولا أعلم ما السبب، لا أتذكر أيام الاحتلال ولكنني أتذكر فقط أيام التحرير وما بعدها وكأني لا أريد أن أذكر تلك الأشهر السوداء.  
قبل الغزو بأيام بسيطة كان والدي كعادته يذهب لأداء واجبه الوطني في لواء المدرع ٣٥ ويمسك السلاح ويحتضنه كأنه يحتضن أحد أبنائه، بل أكثر. ذهب وترك خلفه أطفاله الأربعة، أكبرهم هو أنا- أربع سنوات، وأصغرهم بعمر عشر أشهر مع والدتهم. ذهب كعادته وكان يأمل بأن يعود من عمله مرهقًا ويجتمع بأطفاله يداعبهم ويلعب معهم، فشوقه إليهم يطغى على هذا الإرهاق؛ إلا أن ذلك اليوم الأسود حال دون ذلك، حيث اجتاحت الجيوش الغادرة الكويت وراح ضحيتها من راح وصمد من صمد وأُسر من أُسر، ولم يستثنِ هذا الجيش كويتي ولا غير كويتي ولم يعرف صغيرًا ولا كبيرًا ولا طفلًا ولا شيخًا ولا رجلًا ولا امرأةً ولا مدنيًا ولا عسكريًا. 
وكنا كلما ذهب والدي إلى تلبية الواجب، أخذتنا والدتي الى الحديقة القريبة من منزلنا الصغير (ملحق) في محافظة الجهراء في منطقة القصر بعد صلاة العصر حتى نتنزه، ولكن في ذلك اليوم المشؤوم سمعنا أصوات إطلاق النار إلا أن والدتي لم تعرف ما حصل وما سبب إطلاق النار، وكانت تعتقد أن أحد سكان المنطقة قد تزوج وفرحًا بزواجه قام البعض بإطلاق النار، وحين خرجنا من المنزل نحو الحديقة تلفتت أمي يمين ويسار ولم ترَ أي أحد في الخارج وحتى عندما وصلنا لحديقة لم نجد أحدًا وكأننا في أحد أفلام هوليود حيث لا يوجد أي كائن حي واختفت البشرية؛ فارتعبت أمي من الأمر وعدنا أدراجنا إلى المنزل دون أن نعلم ما يحدث، ولكن شعرنا أن هناك أمر سيئ، وأملنا بعودة والدي الذي لم يعد من واجبه بعد. 
وقعت وقتها معركة الجسور التي أصبحت رمزًا للصمود من بسالة جنودها الأبطال الذين ضحوا بكل ما لديهم من أجل الدفاع عن وطنهم والتصدي لعدوهم رغم قلة الجنود والموارد أمام جيوش جرارة تسحق من يواجها. لقد وضع هؤلاء الجنود أرواحهم في خدمة الوطن ولم يكترثوا بمن تركوهم خلفهم من أمهات وآباء وإخوة وأطفال وأزواج وعوائل، وهبوا لحماية الوطن. 
لقد استبسل هؤلاء الجنود وقاتلوا حتى أتت أوامر القيادة العليا في الدمام بانسحاب كامل الجيش بعتاده نحو الدمام فقاموا بتنفيذ الأوامر ووصلوا إلى الدمام. وعندما وصلوا، ذهب والدي إلى أحد الضباط وقال له: "سلمت الأمانة وأريد أن أعود إلى الكويت." 
فسأله الضابط: "لماذا تعود؟"، فأجاب: "سأخرج أولادي وزوجتي فليس لهم أحد هناك."
قال له الضابط: إذا ذهبت إلى الكويت، سيعدمك الجيش العراقي، كما عليك أيضا أن تأخذ الموافقة من القيادة." 
قال والدي: "سيدي، القيادة لن تعطيني الموافقة، لذا سأسلم سلاحي وبدلتي العسكرية وإن رجعت بالسلامة سأعود إلى الصفوف وإذا لم أعد فاعلم أن الله قد أخذ أمانته." ورجع والدي لكي يخرجنا من الكويت. 
في اليوم الثالث من الغزو الغاشم أتى زوج خالتي  لإخراجنا من منزلنا ووضعنا مع عائلته، وسمعنا خبر أسر خالي وخال والدي، وأصبحنا في ليلة وضحاها لاجئين لا نعلم ما مصيرنا. أصبحنا في يوم وليلة- جميعنا- بلا منزل ولا عمل ولا أب ولا وطن، وكان من الهلع أن أصبح الناس لا يثقون بأي أحد. 
ثم بعد يومين قضيناهما في بيت خالتي طرق الباب فأجاب زوج خالتي: "من بالباب"، قال الطارق: " أنا أحد أقارب أبي عبد الله- والدي- وأريد أن أصطحب عائلته للسعودية". رفض زوج خالتي معللًا ذلك بأننا أمانة عنده، فقال له الرجل أنه يجب أن يخرجنا من الكويت إلى السعودية لأنه إن دخل والدي للكويت فسيعدمه الجيش أو يأسره. وكان هناك بعض من أقرباء والدي قد تعهدوا بإخراجنا وكان ذلك الرجل يعرفهم جيدًا ويثق بهم، فوافق زوج خالتي على رحيلنا لا سيما بعد إلحاح خالتي وأمي عليه. ورحلنا بالفعل، ثم بعد يوم أو اثنين أخرجونا من الكويت إلى أحد بيوت أصدقاء أبي في السعودية، وكان الطريق عبارة عن أرتال دبابات، وقد تعاطف معنا بعض أفراد الجيش العراقي حيث لم يكن بأيديهم شيء سوى تنفيذ الأوامر وإلا فسيتم إعدامهم. 
وفي طريق ترحالنا، خاف السائق، وقد كان من أصدقاء والدي، من خوض المغامرة، ذلك أننا كنا أطفالًا ووالدتهم، فتوقف بسيارتنا- دادسن، وانيت- وأخذ يفكر بالطريق حتى مرت دبابة عراقية، فسأله سائقها: "شبيك صافن؟" أي: بم تفكر؟، فأجابه أن الطريق وعرة وقد تغرز السيارة ومعه عائلة، فقال له الضابط العراقي: "لا تخف أخي، إذا غرزت أطلعكم بدبابتي"، وهنا تطمن صديق والدي وخرجنا بسلام. وعند وصولنا إلى السعودية- بالحفر الباطن تحديدًا- عرفنا أن والدي لجأ إلى أحد أصدقائه (ربعه) طلبًا للمساعدة بإعطائه سيارة حتى يدخل الكويت ويخرجنا، ولكن صديقه رفض خوفًا على والدي من الإعدام إن هو دخل إلى الكويت، وتكفل بإخراجنا دون دخول والدي، وقد غمرت السعادة والدي بنجاتنا إلا أنها كانت سعادةً منقوصة حيث أننا قد أضحينا بلا وطن!

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد