dark_mode
  • الخميس ٢٥ / أبريل / ٢٠٢٤
الحرية... الحقوق... شاي الضحى! – جهاد محمد

الحرية... الحقوق... شاي الضحى! – جهاد محمد

قد يبدو الخوض في مجال حقوق الإنسان ترفًا لبعض أولئك المعنيين في "غزل الأنسجة" الوطنية والعرقية والفئوية والمذهبية ما دام جل طموحهم هو استمرار توارث هذا المحيط الضيق للوطن في مخيلتهم وطرق التعاطي معه، فعلى نقيض مقلبين من توزيع حصص "كعكة" المناصب، نجد هذا الزهد الكبير في إقبال الأفراد من "الإقطاعيين الجدد" في تبوُّؤ الفعاليات المدنية والمجتمعية المتعلقة "بحقوق الانسان" وإدارتها لعدة أسباب، لعل أبرزها أن هذه الأنشطة الحقوقية تعني بالضرورة- في المجتمعات المتحضرة- الدخول في صدامات مستمرة مع القرارات والأفعال الحكومية، وهو ما يضر بمستقبل الطموحات السياسية والتجارية للمسؤولين عن المشهد المؤسسي لحقوق الإنسان.
يتذمر أغلب الشعب الكويتي من تدني مستويات الحرية في البلاد عما كانت عليه سابقًا، إلا أن أغلبهم لا يعي تمامًا أن ثمة علاقة طردية بين الحريات وحقوق الإنسان بالمجمل، بل إن الأخيرة هي جزء أساسي من تركيبة جميع أيدولوجيات الحرية الفكرية والسياسية والعقائدية للفرد.
ثمة نزعة عنصرية غير مسبوقة تغزو الفكر المجتمعي الكويتي، يرافقها تمامًا تدني غير مسبوق في سقف الحريات العامة للأفراد، في ظل صمت مطبق من قبل الفعاليات الرئيسية للجمعيات الحقوقية والمدنية (باستثناء جمعية المحاميين). بدأ هذا الأمر مذ أن رتّب بعض المتنفذين المسؤولين وقوف بعض أعضاء مجالس إداراتها متوازين جنبًا إلى جنب لأخذ اللقطة التذكارية لصورة انتخابهم تارة... وتعيينهم تارات أخريات. 

الاختباء خلف الإصبع 

عن سابق استهتار إنساني- وطني، أثقل ملف حقوق الإنسان كاهل الكويت بالمحافل الدولية، وتصاعدت وتيرة الانتقادات تجاهها (حكومات وهيئات دولية ومنظمات حقوقية) إلى حد غير مسبوق عبر ذكر الكويت في القوائم السوداء للدول التي يشهد بها ارتفاع خطير لمؤشرات الكراهية والاضطهاد والعنصرية وصولًا إلى سجناء الرأي والمهجرين قسرًا، حيث ورد اسم الكويت مع الدول التي ذكرتها السفيرة الأمريكية بالأمم المتحدة في اجتماع أكتوبر٢٠١٩ بشأن تعهدات بمساعدات أمريكية لتوفير الدعم الإنساني للدول ذات الكثافة لعديمي الجنسية، وكما جاء في تقرير شبكة إنترنيشنز الألمانية في مايو ٢٠٢١ أن الكويت أسوأ بلد عالميًا للوافدين.
التمييز المُمارس من قبل البعض ضد الوافدين وقضايا المعارضين لم يكونا سوى رأس جبل الجليد في هذا الأمر، في حين كان وما زال ملف عديمي الجنسية "البدون" هو حجر الزاوية في كل هذه القضايا الحقوقية.
تمر هذه الأيام الذكرى السنوية السادسة والعشرين على صدور التقرير الأول لمنظمة حقوق الإنسان Human Rights Watch)) للبدون في أغسطس ١٩٩٥. يعتبر هذا التقرير النوعي- والصادر باللغة الإنجليزية- أحد أهم المراجع التي كتبت مبكرًا عن هذه القضية، لا سيما تشريحه لمعاناة البدون بكل تفاصيلها مستعرضًا حالات الأفراد القانونية والمعيشية والحقوقية، إلى جانب تناوله لبعض القصص التي تبدو أبعد من الواقع إذا ما هي رويت اليوم وفق الترويج الحكومي لمصطلحها المعهود في كل جلسات الاستماع الدولية الحقوقية: الريادة بالعمل الإنساني. 
في العقد الأول بعد التحرير، كان هناك عمل شبه ممنهج لإخراس الأصوات الحقوقية بالكويت، ولعبت التيارات ووسائل الإعلام المحدودة آنذاك دورًا كبيرًا في ترهيب الحقوقيين وبقية المجتمع من تقويض ما يعرف بـ "اللحمة الوطنية".
في حديث غير منشور لأحد الحقوقيين المعروفين يروي أنه تفاجأ باتهامات إحدى الصحف المحلية له والتي وصلت إلى حد الخيانة الوطنية وذلك لمجرد مشاركته في مؤتمر حقوقي دولي في العاصمة الأردنية عمّان كان مخصصًا لمناقشة أزمة أطفال العراق جراء الحصار الاقتصادي، يقول ذلك "الحقوقي" إن أحدًا في تلك الصحيفة لم يستمع أساسًا لمشاركته والتي خصص جزءًا كبيرًا منها لانتقاد النظام العراقي السابق لما آل إليه حال الشعب هناك.
باستثناء بعض أعضاء مجلس الأمة، كان من شبه المستحيل العثور على أصوات مدافعة عن "البدون" في التسعينات، وشبّه أحدهم تلك الحقبة بالعيش داخل صندوق ضيق في وطن كبير. 

الاتجار بمعاناة البدون

في العام ١٩٩٤، حشد النظام العراقي السابق مئات من المبعدين عن الكويت على الحدود معها وفق ادعائهم بأنهم مواطنوها من البدون بعد أن عرض البعض منهم أوراق تثبت عمله أو إقامته فيها خلال فترة ما قبل الغزو، لم تكن هذه سوى الحلقة الأولى من مسلسل الاتجار بقضية البدون، ثم توالت هذه الحلقات إلى يومنا هذا على الجانبين من مؤيدين ومناهضين، إلى الحد الذي قلّص فيه رئيس مجلس الأمة شعاره الانتخابي المعروف (إياك واليأس من وطنك) إلى الحفاظ على الهوية الوطنية من تجنيس البدون، وهو الذي خصص له حيزًا كبيرًا في برنامجه الانتخابي الأخير سواء من خلال القانون الشهير الذي قدمه أو حتى  من خلال اللقاء التلفزيوني الوحيد له خلال الحملة الانتخابية.
وكما حال البعض، فإن عددًا آخر من الذين سبقوه إلى البرلمان ركبوا موجة البدون ولكن على حساب التعاطف الشعبي معهم للوصول إلى غاياتهم، حتى أن البدون أنفسهم رأوا في أحد الصحافيين والبرلمانيين وهو عضو بالحركة الدستورية الإسلامية مخلصهم الوحيد في انتخابات ٢٠٠٦ قبل أن يكتشفوا الحقيقة المرة خلال السنتين اليتيمتين في حياته النيابية.
حتى اليوم، لم يقدم أحدٌ من السياسيين أو الجمعيات الحقوقية مشروعًا وطنيًا لحل هذه القضية يراعي به جميع الجوانب الوطنية والإنسانية الأساسية بعد أن أصبح دارجًا بأن ينزع النواب الحرج عن أنفسهم عبر مشاريع قوانين يعرف مقدموها قبل غيرهم أنها ولدت ميتة في ظل تباعد كبير بينهم وبين القناعات الحكومية في معالجة أوضاع البدون. 

ربع الكأس المملوء!

مؤخرًا، بات تعاطي بعض الأبواق الحكومية مع التقارير الدولية عن الكويت يشبه إلى حد بعيد إعلام "جمهوريات الموز"؛ ففي تصنيفها الأخير وضعت مؤسسة "فريدوم هاوس" الكويت في المرتبة ١٤٣ عالميًا من أصل ٢٠١ دولة من حيث الحريات والحقوق السياسية بعد حصولها على ٣٧ درجة فقط من مجموع ١٠٠، وهو رقمٌ متدنٍ جدًا ومؤشر متراجع لمسيرة البلاد الديمقراطية، وبدلا من هذا كله فإن الإعلام العام ومن يدور في فلكه أخذ ربع الكأس المملوء من هذا الخبر بعد أن روج له بعنوان: الكويت الأولى خليجيًا في الحريات والحقوق!
وجدت الأغلبية المعارضة في مجلس الأمة نفسها أمام استحقاق حجب المساءلة عن بعض المسؤولين، ونجحوا في الاستفراد بالبرلمان وتحجيم صلاحياته بعد أن غاب الرديف الأساسي له والمتمثل في جمعيات النفع العام، والتي أصبحت تركيبات بعض أعضاء مجالس إداراتها تعيينات حكومية ولكن على طريقة الانتخابات! لذلك، بات من الطبيعي جدًا أن تمر مثل هذه التقارير والمؤشرات المخزية مرور الكرام من دون أن تواجه بأصوات تدفع المعنيين إلى مراجعة الحسابات لتصحيح المسار الديمقراطي والحقوقي.
لك أن تتخيل فقط أن جمعيات وفعاليات حقوق الحيوان نشطة في الكويت أكثر من تلك المعنية بحقوق الإنسان! والأكثر من هذا فإن أصوات انتقادها لتصرفات المسؤولين في القضاء على ظاهرة الحيوانات السائبة أقوى صدى من ذلك الصوت الناعم لنظرائهم المنتخبين والمعنيين بحقوق الإنسان، بل وصل الأمر إلى حد مقيت بأن يصبح أعضاء هذه الجمعيات الحقوقية مدافعين عن تصرفات المسؤولين. 

ديوان شاي الضحى!

في العام ٢٠١٥ أشهر بقانون ما يعرف بالديوان الوطني لحقوق الإنسان، ومنذ تعيين أعضاء مجلس إداراته في سبتمبر ٢٠١٨، ظل الديوان يبحث خلال ١٦ شهرا عن أمر واحد فقط وهو تصميم شعار مناسب له (يناير ٢٠٢٠)! وحينما وجد ضالته أخيرًا في الشعار فإنه احتاج إلى ١٥ شهرًا أخرى لتدشين حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي (مايو ٢٠٢١)! وخلال جولة سريعة على هذه الحسابات فإنه ومن أصل ٤٠ منشور لهم على موقع (انستغرام) نجد ٢٩ منها مخصصة للتعريف بأعضاء الديوان ولجانه وتقديم التهنئة والنعي، في حين أن بقية الصور الأخرى هي لاجتماعات لم يتم ذكر نتائجها والتوصيات التي خرجت منها حتى الآن!
يصلح ديوان حقوق الإنسان لأي شيء في الكويت إلا لحقوق الإنسان! نجد أن تعامل بعض أعضائه مع القضية الأم في صلب عملهم وهي "البدون" لا يتعدى تصريحين، الأول منها يطلب به معلومات من وزارة الداخلية عن حادثة انتحار شاب بدون داخل مخفر الوفرة، والثاني لرئيسها يقول فيه أنه لا يوجد توجه حكومي لانتهاك حقوق الإنسان بشكل ممنهج!
يؤخذ على البعض ممن نتوسم بهم الخير أن يقفوا متفرجين على تحويل ما يفترض بأن يكون الملجأ الكبير لحقوق الإنسان في الكويت إلى ديوانية شاي الضحى، يتسابق أعضاؤه على الاصطفاف لالتقاط صور تذكارية، فهم وقبل نحو عام فقط على انتهاء ولايتهم الأولى لم يقدموا أي تقرير حقوقي معتبر أو حتى غير معتبر، بل إن حتى ردّ فعلهم على الحوادث الإنسانية الصارخة بالانتحار تدنّت من المطالبة بمعلومات ثم اجتماع رمزي قبل أن يطلق الرئيس تصريحه الشهير بتبرئة الحكومة. 

جمعية حقوق الإنسان التعاونية!

أجرت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية العريقة استطلاعًا نشر في ٢٠١٦ حول الدول الأكثر عنصرية في العالم، ورغم وجود أغلبية سكانية (مواطنين ووافدين) ممن يتشاركون في اللغة العربية والدين الإسلامي، إلا أن ترتيب الكويت جاء صادمًا بحلولها بالمرتبة السابعة كأكثر بلد عنصري من أصل ٦١ دولة!
لم تحرك جمعية حقوق الإنسان ساكنًا في وجه مثل هذا المؤشر الخطير جدًا، والذي يبدو أنه قد تفاقم في السنوات الأخيرة بشكل لا يطاق، على الرغم من أن الدور المنوط بها يتمثل في محاولة انتشال المجتمع من مستنقع العنصرية سواء عبر حملات إعلامية أو ندوات تثقيفية أو حتى عبر متابعة التقارير التفصيلية لكيفية نشوء هذه الظاهرة وسبل علاجها.
ليس خافيًا أن هذه الجمعية والتي من المفترض أن تكون أكثر فعاليات المجتمع المدني صدامًا مع المسؤولين، قد أصيبت بالصم والبكم والعمى أمام الأفعال المرتكبة ضد فئتي الوافدين والبدون.
"انتحار طفل بدون"، "مقتل طفل بدون يبيع الورد"، "بدون يحرق نفسه"، وغيرها من العناوين التي تعدى صداها الكويت لتصل إلى منظمات حقوقية عالمية كمنظمة حقوق الإنسان (هيومن رايتس ووتش) ومنظمة العفو الدولية، وخصصت لها مساحة واسعة في كبرى وسائل الإعلام الناطقة بالعربية، وكان مقابلها أن أصدرت جمعية حقوق الإنسان الكويتية- والتي تعيش وفق المثل الكويتي "على طمام المرحوم"- بيانًا وحيدًا في فبراير ٢٠٢١ وتقريرًا "ناعمًا" في مايو ٢٠١٩، لم يتضمّنِ أيّ منهما توجيه أي انتقاد للمسؤولين!
تثير مواقف جمعية حقوق الإنسان الريبة لا سيما أنها لم تتطرق من قريب أو بعيد إلى الحادثة الأكثر بشاعة والمتعلقة بقضية "بيع البدون" إلى الدول الأخرى وفق تسهيلات إدارية لدفعهم نحو اقتناء جوازات سفر هذه الدول أو مواجهة عواقب عدم فعل ذلك مما جاء في مشروع قانون رئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم الشهير، وهو الذي جعل لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة تطلب استفسارات حكومية عن هذا القانون. 

الحرية لحقوق الانسان!

يموت الإنسان من الجوع مرة، ولكنه يموت كل يوم حين يعيش مسلوب الحرية والحقوق، وحتى لا تصبح فعاليات حقوق الإنسان في الكويت جمعيات خيرية، لا بد لهذا الشعب أن يأخذ زمام المبادرة وأن يعيد الأمور إلى نصابها فيما يتعلق بمؤسسات المجتمع المدني وتحديدًا تلك المتعلقة بالحريات والحقوق الإنسانية.
إن هذا الانحدار في العمل الحقوقي في الكويت ليس سوى اهتزازات خفيفة متتالية لا يشعر بها المواطن في الوقت الحالي بشكل مباشر، لكنها مع الوقت تنبئ بانشقاق كبير في أرضية الحياة الديمقراطية، فأصوات الأمس التي كان بالإمكان سماعها بوضوح وعلو في ساحة الإرادة باتت اليوم تدوينات على مواقع التواصل، ولا أحد يمكنه معرفة ما إذا كان يستطيع فك رموز شفرة الرسومات في الغد!
لا نتملق لكي يكون هناك تبني مجتمعي جماعي لقضية البدون، لكننا نحثّكم على ضرورة تصويب بوصلة الجهات التي من المفترض أن تكون بالأساس المدافع الأول عنا، ليس لمصلحة البدون فحسب، بل ليفقه المجتمع الكويتي أننا لسنا سوى الاهتزازات الخفيفة التي لا يشعرون بانتحار طفل منهم، أو دهس سيارة لطفل آخر يبيع في الشارع ليسد رمق أسرته، لسنا سوى هذه الاهتزازات التي تسبق الانشقاق... حينها ستبحث في "انستغرام" ديوان حقوق الإنسان لعلهم دافعوا عن مظلوميتك ولا تجد سوى فناجيل شاي الضحى البراقة.

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد