dark_mode
  • الجمعة ٢٦ / أبريل / ٢٠٢٤
مقصلة الأصول... تحقيق في مقولة البدون مو فقع - جهاد محمد

مقصلة الأصول... تحقيق في مقولة البدون مو فقع - جهاد محمد

مقصلة الأصول...تحقيق في مقولة "البدون مو فقع!"

اشتهرت في منتصف التسعينيات (قفشة) ساخرة لا يعرف قائلها وهي: "البدون مو فقع" وهو نبات الكمأة الذي ينبت في الصحراء دون جذور بسبب الرعد والمطر، ورغم سماجة هذه "النكتة" إلا أنها تشكل جانبا رئيسيا من حقيقة الجزء المتعلق بالأنساب بمفهوم ال جينيالوجيا، لكن أكثر المتفائلين من المنطوين تحت لواء "الفطريات"، أي العنصريين في هذا الوطن، لم يتوقعوا أن تتحول هذه القفشة المقيتة إلى واقع بائس تتوقف بموجبه صلاحيات ممارسة أبسط قواعد الحياة الطبيعية لأشخاص طبيعيين من المفترض أنهم خاضعون لمظلة دولة لديها الحد المعقول من الأنظمة الدستورية والقانونية المتعلقة بتنظيم حياة الأفراد (مواد الدستور ٧،٨،٩،١٠،١٣،١٥،١٦،١٨،٢٢،٢٩،٣٠،٣٢،٣٤،٣٦،٤٤).
لسنا بصدد التطرق إلى كل هذه الانتهاكات الدستورية للمواد السابقة والتي يتعرض لها بدون الكويت منذ عشرات السنين وإلى الآن، وهي تعطي الأشخاص (مواطنين وأفرادا) وفق النصوص الصريحة بها، كل هذه الحقوق على اعتبارين: البدون بصفتهم أفرادا، والبدون بصفتهم مواطنين كويتيين ضمنًا، وذلك بموجب حكم محكمة الجنايات الشهير لعام ١٩٨٧ والذي أشار إلى عدم إمكانية إدانة البدون بموجب قانون الأجانب، بالإضافة إلى حكم آخر في العام ١٩٨٨ متعلق بذات الشأن.
إن مجتمع البدون يمثل "كويت مصغرة" بالتعددية العرقية والمذهبية والفئوية (بادية وحضر)، لكن المعنيين بملف هذه القضية فصّلوا مقياس هذه التعددية بمزاج عنصري-سياسي أدى إلى نشوء بؤرة حرمان طالت هذا المجتمع ووصلت به إلى اليوم الذي يدمغ خلالها الجهاز المركزي على صدر البطاقة الأمنية عبارة (من أصول...) فيسقط بذلك من منظور مؤسستهم حق المواطنة الكاملة للفرد بهذا الوطن.
صحيح -كما يقولون- بأننا لسنا ب "فقع" ظهر فجأة فوق هذه الأرض، ولكن قبل أن تُمارس كل أبعاد الإعدام المدني بحقنا، وجب على مجتمع "الكويت الكبير" أن يفهم جيدًا ما هي التهمة التي تتم على إثرها كل هذه الممارسات، فهذه الاتهامات "المطاطية" التي ابتعلت جارك في الوطن، سيحين دورك لتبتلعك أنت أيضًا...لاحقا!

العودة إلى قانون الجنسية
تنص المادة الأولى من قانون الجنسية على التالي: "الكويتيون أساسا هم المتوطنين في الكويت قبل سنة 1920م، وكانوا محافظين على إقامتهم العادية فيها إلى يوم نشر هذا القانون. وتعتبر إقامة الأصول مكملة لإقامة الفروع، ويعتبر الشخص محافظا على إقامته العادية في الكويت حتى لو أقام في بلد أجنبي متى كان قد استبقى نية العودة إلى الكويت".
لاعتبارات عديدة، أهمها تكوين دولة الكويت كبلد هجرات، بالإضافة إلى طبيعة ظروف العمل القاسية لفرعي الشعب: الحضر-البدو، والتي تتطلب الكثير من الأسفار خارج حدود الوطن ولفترات زمنية طويلة من العام، راعى المشرع أن يكون استهلال المادة الأهم في القانون الكويتي والمتعلقة بتحديد المواطنين "الأصليين" باستيطانهم في البلاد خلال الفترة الزمنية قبل العام ١٩٢٠، وهي فقرة مهمة تدحض بقوة القانون ادعاءات بعض الطبقات ذات النفس الطبقي والعنصري وفق النهج السائد منذ فترة ليس بالقليلة وحتى الآن: "ولد بطنها".
لكن الفقرة الأكثر أهمية في هذه المادة هي عبارة "يعتبر الشخص محافظًا على إقامته العادية ولو أقام في بلد أجنبي متى ما استبقى نية العودة إلى الكويت"، وهي فقرة وإن راعى المشرع بوضعها بشكل أساسي العوائل التجارية التي استوطنت الهند والعراق والإحساء، إلا أنه فتح الباب على مصراعيه نحو منح الحقوق الكاملة للأشخاص الآخرين المعتمدين على كثرة الترحال من رعاة الماشية والبحارة "بدو-حضر".
لكن، لماذا نص قانون الجنسية على عبارة الكويتيين أساسًا وليس الكويتيين أصلًا، على الطريقة المعروفة عالميًا بمصطلح السكان الأصليين؟
بحسب كل كتب التاريخ الحديث للكويت، فإن قبيلة بني خالد هم المواطنون الأصليون للكويت، قبل أن يقدم إليها "العتوب" وهم مجموعة من العشائر بما فيهم حكام الكويت من أسرة آل الصباح، وبحسب المعتمد البريطاني في الكويت ديكسون (١٩٣٩-١٩٦٠) فإن أمير الكويت الراحل الشيخ عبد الله السالم أخبره بأن أجداده سموا بهذا الاسم (العتوب) بعد أن رحلوا من الجنوب إلى الكويت شمالًا (أي أنهم عتبوا إلى الشمال). لذلك فإن القانون الكويتي حدد موعدًا زمنيًا بعينه لتعريف المواطنين بالتأسيس، وهي فترة تجعل الناس المقيمين بها متساوين بالمواطنة دون تفرقة بين تاجر داخل السور أو غيص في البحر أو راعي غنم في الصحراء، بمختلف أصولهم وأسماء عوائلهم ومذاهبهم.
شاوي-هكري
يعرف البدو بعدم مرجعيتهم للأرض كمنطقة استيطان دائمة، على النقيض تمامًا من القرويين الفلاحيين و أهل الساحل، وذلك بسبب كثرة ترحالهم بحثًا عن الماء و المرعى، لكنهم رغم هذا يشتهرون بالولاء الكبير لرؤساء قبائلهم قبل نشوء مناطق الحكم الحالية في شبه الجزيرة العربية، والذي تحول بموجبه هذا الولاء من شيوخ القبائل إلى أمراء الدول وحكامها.
إن هذا التحول في ولاء الفرد البدوي كان مطابقًا زمنيًا في الكويت مع  الفترة الفاصلة في التحول من الدولتين: السور-البادية إلى الدولة المدنية ذات حدود النفوذ المعلومة، لذلك شكلت تحركات هؤلاء البدو (قبائل- مجموعات- أفراد) نحو جغرافيا الوطن شيئا من عوامل الرضا لدى السلطات، لما شكلته هذه التحركات من رسم أولي للحدود السياسية للدولة، مستخدمين ولاء البدو عبر اثنتين: المشاركة في الحروب أو تقديم شكل مستحدث من الجزية بما يعرف ب"ذبيحة ومنيحة"، وإن كانت أسوار الكويت الثلاثة قد رسمت ملامح دولة ذات مساحة بضع مئات من الكيلو مترات، فإن "البدو" قد خطوا بولائهم هذه الخطوط الحالية لخريطة الوطن بمساحة أكثر من ١٧ ألف كيلو متر مربع.
جعل النفط من الكويت واحدة من أغنى دول العالم، ولعل أغلب حقول النفط المنتجة تقع في مناطق خارج الأسوار الثلاثة، أي أنها جاءت في الجغرافيا الكويتية التي رسختها دماء "البدو" أو حتى تواجدهم بها على اعتبار أنهم من رعايا حكام الكويت، وإنه من السخرية أن يصل الابتذال اللفظي للطبقة العنصرية في المجتمع بنعت أفراد أساسيين من الشعب- الجنوبيين منهم بال "الشاوي، أي راعي الغنم" والشماليين بال "هكري، مشتقة من الكلمة الإنجليزية هاكر-قرصان، وهي الكلمة التي كانت القوات البريطانية تطلقها على المهاجمين على قواعدها العسكرية في الجزيرة العربية".

البدون... البداية غير المتداولة!
في ظل فقرة (من استبقى نية العودة إلى الكويت) كما جاءت في المادة الأولى من قانون الجنسية والتي أتاحت لكل من ثبتت إقامته قبل العام ١٩٢٠ أن يكون كويتيًا بالتأسيس، يبرز السؤال: لماذا لم ينَل البدون الجنسية؟
خلال مقابلات لجان الجنسية الكويتية بالتأسيس والتي شُكلت في الربع الأول من العام ١٩٦٠، لم يعانِ أهل السور الكثير للحصول عليها، فقد قدموا أوراق تملكهم للبيوت والأراضي داخل السور وفي مدينتي الجهراء والفحيحيل، وحتى أولئك الذين فقدوا ممتلكاتهم لأسباب عديدة أهمها تبعات ما يعرف في التاريخ الكويتي بـ "سنة الطبعة" -وهي بالمناسبة حقبة زمنية مهمة جدًا لكنها غير موثقة بشكل تاريخي تفصيلي- كانوا على معرفة بأعضاء لجان منح الجنسية بحكم جوار السكن وأرباب العمل، وعلى اعتبار أن "البدو" بأغلبهم كانوا يفضلون امتلاك الحلال "إبل وأغنام" على الأراضي لطبيعة حياتهم المعتمدة على التنقل.
ومن هنا ظهر التفاوت العددي بين الحاصلين على الجنسية "التأسيس" من البدو والأفراد داخل السور، قبل أن تظهر على السطح المشكلة الأكثر تعقيدًا والمتمثلة في "البدو البدون".
احتاج البدون في مقابلات لجان التجنيس إلى شهادات إثبات تواجدهم من قبل رؤساء قبائلهم أو التجار الذين تعاطوا معهم في أسواق الأغنام أو محال بيع المواد الغذائية، وهي شهادات رأى أعضاء لجان الجنسية لاحقًا أنها لا تعطي بالضرورة الحق للحصول على المادة الأولى.
من هنا كانت أول مراحل ولادة قضية "البدون"؛ فالأشخاص المرفوضون من لجان الجنسية الأولى رفضوا لاحقا القبول بالمواد الأخرى منها لإيمانهم بحقهم المحجوب عنهم، وحينما عدلوا عن قرارهم هذا كان الأمر أكثر تعقيدًا في لجان التجنيس التالية، فلم يتم الاعتداد بشهادات الأشخاص في هذه اللجان واقتصر الأمر حصرًا على تقديم الأوراق الثبوتية، فظهرت أول إحصاءات تعداد السكان الرسمية للدولة ١٩٦٥ كمرجع أولي، قبل أن يصل الأمر إلى المطالبة بتقديم إثباتات إقامة لما قبل هذا التاريخ، وصولًا إلى تشعب الأمور كثيرًا حتى تحول البدون في يومنا هذا من مُدعين للحصول على الجنسية إلى مُدعى عليهم باتهامات الانتماء إلى الدول الأخرى.


صباح الناصر

لا أحد يعرف "البدون" أكثر من الراحل الشيخ صباح الناصر (أمير البادية)، فقد أسس له ولاء بدو قبائل الشمال (تحديدًا) الخطوط الأولى لحدود الكويت في المنطقة الصحراوية الواقعة من بعد مدينة الجهراء حتى ما بعد المنافذ الحدودية البرية للدولة حاليًا، وكثيرًا ما لعب الراحل دورًا حاسما في القضايا القبلية والعشائرية.
يروي الباقون من تلك الحقبة قصص عديدة عن العلاقة بينهم وبينه، بدءًا من الأوراق التي يعطيها لهم للعبور إلى داخل سور الكويت، من أجل بيع البضائع وشرائها، أو حتى من خلال شراكتهم معه في الماشية التي يملكونها ويتنقلون بها طوال العام في محيط الجزيرة العربية قبل الاستقرار ربيعًا في الكويت، وهي شراكة كانت تسمح لهم بالدخول إلى المناطق المناسبة للمرعى داخل الأراضي في السعودية والعراق بعد أن حدت معاهدة "العقير" من حركتهم برسمها منطقة محايدة بين حدود الدول الثلاث الكويت-السعودية-العراق وذلك بهدف تسهيل انتقال القبائل البدوية التابعة للدول الثلاث ارتيادًا للماء والمرعى (كتاب تاريخ الكويت الحديث للدكتور احمد مصطفى أبو حاكمة)، بل إنه وما قبل تلك الحقبة لم يكن هؤلاء سوى نواة الجيش الكويتي الحديث، عبر مشاركتهم في الغزوات أو بعض المهام الحربية الخاصة.
ولربما كان من سوء حظ البدون أن أحد أكبر حلفائهم من الأشخاص الاعتباريين في مؤسسات الدولة توفي عن عمر ٤٧ عاما فقط، وعلى افتراض بقاء الشيخ صباح الناصر على قيد الحياة لحين العمل بلجان الجنسية، هل كان من الممكن أن يرفض أي أعضائها شهادة أمير البادية ومحافظ العاصمة حينها لصالح البدون؟ وهل من دور وفاء قد يلعبه أحد أحفاده المهتمين بتاريخ جدهم لصالح البدون حاليًا؟
في الفترة الفاصلة بين وفاة الناصر في ١٩٥٧ وبين العمل رسميًا بحصر التعداد السكاني في ١٩٦٥، مال جزء كبير من  شباب "البدو البدون" إلى الانتقال من الصحراء إلى العيش في المناطق النائية (العشيش) في حين بقيت عائلاتهم الكبيرة تنتقل كمجموعات بمواعيد ثابته منذ عشرات السنين في محيط هذه الدول الثلاث، وثمة العديد من القصص التي خسر أصحابها إثبات تواجدهم في هذا الإحصاء لعدم إضافة الأشخاص العازبين في أوراق التعداد، أو لتواجدهم في العمل (النفط-الصحة-عمال بناء) أثناء مرور موظفي الإحصاء.
لم تكن المواطنة مغرية للبدو للانضمام إليها، بل إن فكرة الإحصاء بحد ذاتها كانت مرعبة لبعضهم وقد اضطر إلى تغيير عنوان "عشته" خوفًا من عواقبها، ومن هنا لم يكلف تأخر بدو البدون إلى كنف الدولة المدنية كاملة الأركان خسارة ما تبقى من أعمارهم فحسب، بل وصل الأمر أيضا إلى جيل أبناء الأحفاد في المعاناة من الحرمان، ليس لشيء اقترفوه هم أو آباؤهم أو حتى أجدادهم، بل لكونهم ينحدرون من أصول شمالية أو جنوبية أو فارسية، دون أن ينظر أي من جلاديهم إلى شجرة العائلة المعلقة بفخر في صدر مجلسه ويسأل نفسه سؤالًا واحدًا فقط: هل كان جدي قبل مجيئه إلى الكويت من سكان المريخ؟!

فخرهم...وعارنا!

تفتخر دول العالم المتحضرة بوصول مسؤوليها من المهاجرين إلى المناصب الرفيعة الحكومية منها والدولية، وحينما تأتي الإشارة في السيرة الذاتية لهم يقال دون استحياء بأنهم من أصول أجنبية تختلف في اللغة والدين والبعد الجغرافي عنها، وهم بذلك يعطون انطباعًا بأن بلدهم تجاوز هذه التصنيفات الفئوية والعنصرية والطبقية الضيقة في سبيل الهدف الأسمى وهو تقدم البلد.
وبصفتك بدون ٢٠٢١، عليك الآن أن تواجه اتهاما في أصلك! حتى لو كنت مؤهلًا على الورق لنيل الجنسية فإن شيئًا في جيناتك الوراثية سيحرمك منها، فهم غير معنيين بجدك الذي استبقى نية العودة إلى الكويت قبل ١٩٢٠ خلال فترة تنقله البري ما دامت هذه الفقرة صيغت لأشخاص بعينهم دون سواهم، ويدون ذلك الاتهام في بطاقتك الأمنية بأنك من أصول شمالية، كأن شمالك ليس الزبير والبصرة! كأنك لم '"تعتب" مثل البقية شمالًا إلى الجنوب.
بصفتك بدون ٢٠٢١، ستبقى تعاني حتى يفهم المسؤولون هنا أن انحدار الفرد من عِرق أو قبيلة تمتد أقلها ظهورًا إلى ما قبل ١٥٠٠ عام لا يعني بالضرورة انتماءه إلى دول نشأ كيانها الحدودي أو نفوذها السياسي في القرن التاسع عشر ميلادي.

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد