dark_mode
  • الجمعة ٢٩ / مارس / ٢٠٢٤
البدون في الشتات - أحمد السويط

البدون في الشتات - أحمد السويط

نحن ننزف أرواحًا وأجساد تنتزعها منّا الغربة يومًا بعد يوم. غربة الداخل في ’وطن لا نعيش فيه‘، وغربة الشتات في أوطان لا يعيش أحبتنا فيها. حتى عام 1991، انخفض عدد البدون إلى أقل من النصف حسب تقرير منظمة العفو الدولية عام 2019 الذي أكد أنه إلى الآن لم يتم إجراء تحقيق رسمي لبحث مصير المفقودين من البدون، وبماذا يمر أهلهم بعد فراقهم. ثلاثون عاماً منذ ذلك الحين، ولا زلنا نسمع كل يوم عن بدون آخر رحل أو يريد أن يرحل عن الوطن للنجاة بما تبقى من حياته وكرامته. ولكن هل تنتهي معاناة البدون بالرحيل؟ أم أنها تلد فصولًا جديدة من الآلام، ربما هي أشد مرارة مما كان يسبقها؟ وما تبعات التغريب الذي يعاني منه الإنسان البدون طوال حياته؟

الرحيل عن الوطن

قد تبدو مسألة رحيل الإنسان البدون عن وطنه الكويت أمرًا عاديًا؛ وقد يراها الكثيرون مجرد قصة إنسان ينتقل من مكان يعاني فيه من الظلم إلى مكان آخر ينعم فيه بالعدالة الاجتماعية. ولكن هذه النظرة أبسط بكثير مما هي عليه في الواقع. أن يترك الإنسان وطنه للنجاة بحياته وكرامته ليست حالة هجرة، وإنما هي حالة تهجير، والفرق كبير بين الحالتين. إن أول ما ينتج عن تهجير البدون هو تشتت عوائلهم، وتقطّع روابطهم الأسرية، وما يصاحب ذلك من آلام ومآسي. كم من أمٍّ خطفت الغربة فلذات كبدها من حضنها وهي في أشد الحاجة إلى وجودهم قربها، وكم من طفل حُرم من تواجد والده إلى جانبه في أهم مراحل حياته. لنا أن نتصوّر كيف تعيش الكثير من الأمهات البدون وقِطعٌ من قلوبهن وأرواحهن تعيش في المنفى، ولنا أن نتصوّر حال أطفال البدون الذين فرض عليهم المنفى أو آثاره دون أي اعتبار من الحكومات. هذه التجارب من بديهيات ’أن يكون الإنسان بدوناً‘ في الكويت أو في المنفى، وما خفي أعظم.

من غربة الوطن إلى غربة الشتات

قصصنا في الشتات كثيرة ومؤلمة، ولعل أكثرها إيلامًا ما ترويه مقالة منى كريم "خرائط المنفى" التي تفصّل تجربة انتقال الإنسان البدون من غربة الوطن إلى غربة الشتات، وما يمر به قبل الانتقال وعنده وبعده بين الغربتين. وكأن هذه الخرائط خُطَّت بمشرط يكشف ندوب الوطن الذي غرّبنا ثم نفانا إلى الشتات الذي أصبح ملاذًا لعشرات الآلاف منّا. أخذتني ’خرائط المنفى‘ إلى مشهد حزم أمتعتي، ووداع أهلي الذين دعوتهم إلى العشاء في منزلي ليلة رحيلي من الكويت إلى لندن لكي أشبع ناظريَّ منهم. لم يعلم برحيلي منهم سوى والدتي وزوجتي اللتان كتمتا الأمر لخطر كان وشيكًا. خرجت من المنزل صباح اليوم التالي بعد أن ودّعت أمي وزوجتي على عجالة. كان صغيراي نائمين -رحلت عنهما دون عناق أو حتى "مع السلامة". لا أعلم ما الذي شعرا به عندما استيقظا من النوم ذلك اليوم: هل جلسا ينتظراني عند النافذة المطلة على الشارع كما كانا يفعلان في كل مرة وقت عودتي من العمل؟ لم أتوقف عن الحديث معهما منذ رحلت، ولكن المشاعر عبر الأثير تبقى مجتزئة من سياقات المكان.

صعوبات منذ البداية

يبدأ مشروع رحيل البدون الذي غالباً ما يكون إلى الغرب بالاقتراض أو بيع أثمن المقتنيات -إن وجدت- من أجل تأمين ضروريات السفر من حقائب وما تحتويه من أمتعه، ولكن قبل ذلك، من أجل تأمين الوثائق الضرورية، لا سيما جواز السفر (مادة -17) والذي لا يمكن للإنسان البدون الحصول عليه بالطرق الطبيعية. وعند وصول البدون إلى محطة الغربة التالية، عليه الآن أن يتهيأ للتعامل مع المكان والزمان بشكل مختلف، ناهيك عن السؤال الذي عليه أن يسمعه بين حين وآخر: "كيف أصبحت لاجئًا وأنت من إحدى أغنى دول العالم؟". بالنسبة للمكان، على اللاجئ البدون، لا سيما في السنوات الأولى، أن يتكيف مع السكن حيث لا يختار والعيش مع من لا يعرف، وكذلك مع نمط الحياة الجديد الذي يعتمد بشكل أساسي على الاتصال، حيث قد يؤدي إهمال مكالمة هاتفية أو رسالة بريدية واحدة إلى سنوات من التأخير في الحصول على ’الاستقرار القانوني‘. وبالحديث عن الوقت، فإن ساعة البدون في الشتات ليست بثلاث عقارب، بل تفوق عقاربها عدد أذرع الأخطبوط؛ فأنا مثلاً أعيش بين توقيت الكويت حيث يعيش أهلي، وتوقيت المملكة المتحدة حيث أعيش، وتوقيت كل من أستراليا وكندا وسويسرا وأمريكا والسويد والنمسا وهولندا وبلجيكا، حيث يعيش أقاربي وأصدقائي الذين هجّرهم الظلم من الكويت. هذه مجرّد لمحة عابرة عن واقع البدون في الشتات، وهو واقع بعيد كل البعد عن الصور الرومنسية عن الحياة في الغرب.

خصوصية تجربة البدون في الشتات

على العكس من تجارب أغلب المهجّرين من أوطانهم بسبب الكوارث الطبيعية أو الصراعات المسلّحة أو الفقر، نحن البدون لم نترك وطننا الكويت لمكروه حلّ به، أو هربًا من فقره وبحثًا عن الرفاهية في غيره، بل رحلنا عنه لأن هناك سياطًا لا تدعنا وشأننا. هناك من يريدون أن يقتلعونا من أرضنا بالقوة، فلم يكتفوا بتحويلنا إلى ’مقيمين بصورة غير قانونية‘ في أرضنا، بل إنهم يسعون إلى تحويلنا إلى أجانب قابلين للترحيل عنها متى شاؤوا. لكن هيهات أن يكون لهم ذلك. يرحل البدون عن أرض وطنه مُكرهًا، ولكنه يأخذه معه في وجدانه، وتبقى فكرة العودة إليه تراوده طوال العمر. من بين كل البدون الذين التقيت بهم في الشتات، إن كانوا في أوروبا أو أمريكا أو أستراليا، وجدتهم جميعًا يفكرون في العودة إلى الكويت، إمّا لزيارة الأهل والأصدقاء، أو للاستقرار في الوطن الأم مرةً أخرى. لكن أكثر ما يؤلم البدون عند عودته إلى وطنه الكويت أنه منذ دخول المطار يتم معاملته معاملة ’الغريب‘، على عكس كل مواطني العالم الذين لا يضطرون إلى الحصول على تأشيرات لدخول وطنهم الأم، أو إلى البحث عن كفيل يمكّنهم من الإقامة فيه. تترك هذه المعاملة آثارًا قاسية في نفوس البدون الذين يتم تغريبهم قبل الرحيل عن وطنهم الكويت وعند العودة إليه، ناهيك عن الكثير من البدون الذين تتم معاقبتهم على تعبيرهم عن آراءهم في الخارج بمنعهم من الدخول إلى الكويت نهائيًا.

آثار تغريب البدون

لم يسلم أي جيل من أجيال من البدون من آلام الغربة. لذا فإن جُلَّ البدون غاضبون ومغبونون. قد ينشغل بعض الذين رحلوا- للنجاة بما تبقى من حياتهم وكرامتهم- بصعوبات التأقلم مع حياة الشتات في السنوات الأولى. قد يرمي بعضهم الماضي وراء ظهره محاولاً التناسي والتركيز على بناء مستقبل جديد في وطنٍ آخر، ولكن في النهاية فلن يستطيع البدون في الوطن وفي الشتات التخلص من الشعور بأنهم موتورون. الوطن بالنسبة لنا ليس أغنية، أو مسرحية، أو شعار نردده متى ما جادت يد الحكومة علينا بالعطايا، بل هو ارتباط روحي مع جغرافيا طبيعية نتعلّق بها رغم قسوتها. هذه العلاقة لا ولن يفهمهما الذين يقيسون الوطن بالدنيار. لن نتنازل عن وطننا من أجل شرذمة تخوض في وحل العنصرية. نفكر بالعودة، ونعمل من أجلها. سنعود إلى وطننا الكويت، ونشارك في بنائها مع الشرفاء من أهلها، سيكون ذلك عاجلًا أم آجلًا، ورغمًا عن أنوف العنصريين.

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد