dark_mode
  • السبت ٢٠ / أبريل / ٢٠٢٤
بدون - زيد الفضلي

بدون - زيد الفضلي

تتناهى إلى سمعي أصوات بعيدة، يبدو أنها مركبات تمر سريعاً في طريق ما، فيصلني أزيزها ضعيفاً واهنًا ويبعث في نفسي شعوراً مراً بالأسى وشجناً طفولياً غامراً.

كنت أقود سيارتي ببطء وسط الشارع المتهالك المملوء بالحفر والمياه المتسربة من البيوت الهرمة التي أكل عليها الدهر وشرب وأظنه تمطى ونام أيضاً، حين رأيته يجلس قرب باب منزله في المسافة القصيرة جداً الفاصلة بين المنزل والشارع، ينفث دخان سيجارته بلذة مشوبة بعذاب قاهر وأمل مخنوق. هو مجرد نموذج آخر.

أحد الشباب الكثيرين الذين أضاعوا طريق الحرية والكرامة واستسلموا بذل لأقدار خانقة تضيق وتضيق دون فسحة الأمل المزعومة.

تأملته سريعًا وأنا أمضي في سبيلي الذي لا بد أن يتقاطع في موقع ما مع أقداره المرة، وداهمتني رغبة جامحة في البكاء، البكاء على أشياء مجهولة.

دائمًا ما يفاجئني البكاء كشيء قدري، شيء لا يمكن تجاوزه بأية حال، عليك أن تستسلم له لترتاح، لكنني ولأسباب واهنة جدًا، أقاومه بحدة ظنًا مني أنني قوي، بينما الضعف يتسرب إلى كل ذرة من كياني.

كنت متجهاً إلى "مكتب السفريات" الذي وعدني باستخراج "فيزا النجاة" لأنطلق إلى عوالم أفضل من عالمي المتخاذل المتخم بالذل والقهر والوجوه الجرداء المملوءة بشاعة وقسوة.

أخبرني الرجل الذي يعمل هناك أن الفيزا ممنوعة لمن يحمل لقب "بدون" وعليّ أن أخوض لجج أخرى إن كنت أرمي إلى الخلاص.

وكالعادة ابتلعت الصدمة بذل، والتساؤلات ذاتها تقفز بوجهها المكفهر اللزج، لماذا يحدث لي ذلك؟ أدمعت عيون الآمال وانحدرت المباهج إلى أسوأ مراحلها وانتشر اليأس مثل سيل جارف.

طالبتني بعض الأفواه الجافة أن أبقى مكاني وأرتضي بقدري الذي صنعته السنن المتتالية، قالوا لي أن الكثير من الناس يحملون ذات القلب المليء بالعذاب، وذات العيون التائهة في المجهول، وأنني لست أفضل منهم.  لكن ولست أدري لماذا ظلت صورة ذلك الشاب الذي ينفث دخان سيجارته بعذاب قاهر ماثلة أمامي على نحو لم أطق تحمله.

وعلى خلاف كل ما ظنه الجميع بأني بدأت أستكين وأرضخ لأحكام القدر، كنت أطرق دروبًا أخرى قاصدًا الخلاص بأي شكل دون النظر لعاقبة الأمور، كنت أبحث عن انتشال نفسي من براثن الشعور باليأس والذل الذي ظل يطوق حريتي أعوامًا طوالًا.

تدبرت مسلكًا شائكًا جدًا، واخترت طريقًا مملوءًا بالعثرات والمجهول، عليّ أن أقطع البحر في ظلمة الليل حتى أصل إلى بلاد النجاة. حملت عزمي الجامح، وسري الذي أبقيته في الظلام، وقليلًا جدًا من متاع. ودعت عالمي الذي بدا لي جميلًا محملًا بصفات الوداعة في لحظات الفراق الأخيرة. لم أنسَ أن أطل على وجه والدتي الغارق في السبات، ملامحها الحزينة، تعب السنين، وحسرة كبيرة على كل ما حدث ويحدث.

حملتني طائرة كبيرة إلى بلاد الأعين الضيقة. أخرجت الورقة الصغيرة وأدرت رقم هاتف الشخص الذي سيحملني إلى وجهتي. التقيته في قهوة صغيرة بالقرب من المطار، كان رجلًا غليظ الملامح تطل من عينيه قسوة الحياة بصورة فجة، اتفقت معه على المبلغ والموعد بسرعة كبيرة فلا شيء يوقف القدر حين ينطلق.

في اليوم التالي كنت جاهزًا تمامًا لخوض الرحلة. اجتمعنا في قارب صغير جدًا، خمسة عشر وجهًا بائسًا، وجوه هربت من حياتها بحثًا عن عالم جديد يكون أكثر إنسانية ورحمة.

انطلق القارب الصغير يشق عباب البحر بصبر الصابرين وحماية الأقدار، كان البحر هادئًا جدًا والنسمة رائقة ومنعشة.

 انعكست وجوه كثيرة في مخيلتي وتقافزت ملامح طالما تمنيت أن أبقى بقربها، وتساءلت من جديد، لماذا يحدث لي ذلك؟

ظللتُ أرمق الأمواج بنظرات نافذة، ووجدت نفسي أدفع كل الأبواب المواربة وأفتحها على مصاريعها، تبدت لي الحياة كشيء يستعصي على الفهم، وتراكضت في رأسي صور شتى لكل شيء، وجدت نفسي أتذكر أشياء كثيرة لم تخطر على بالي يومًا، وتساءلت من جديد، لماذا يحدث لي ذلك؟

قطعنا أغلب المسافة في الليل، اقتربنا كثيرًا من وجهتنا، التي كان من المفترض أن نصل إليها مع حلول الفجر وأن نتسلل إلى مراكز الأمن هناك ونسلم أنفسنا كما هو متفق ليتخذوا إجراءاتهم الإنسانية في حقنا والتي ستمنحنا الكرامة المفقودة.

وفي غمرة التحفز والأمل هبت نسمة هواء مغايرة، كانت تحمل رائحة الموت.

توجست خيفة و تسلل إلى قلبي شعور ثقيل، وما لبث البحر أن هاج على نحو جبار، تصاعدت الأمواج كمردة الموت وبدا القارب الصغير في لججها كريشة تذروها الريح على غير هدى.

اكفهرت الوجوه وارتسمت علامات الهول على التقاطيع البائسة، وفاضت العيون بدموع مالحة حسرة على حياة قصيرة مملوءة بالقهر والهوان.

وفي لمح البصر صعد القارب مع إحدى الأمواج العاتية إلى عنان السماء ثم انكفأ على وجهه بعنف وتناثرت الأجساد في الأزرق الكبير. راح الجميع يصارع الأمواج الهائجة بيأس متعلقين بأطراف الحياة التي تصارع هي الأخرى حتى تتخلص منهم.

ظللت هادئًا وسط سترة النجاة المهترئة، كنت أشاهد الحياة وهي تغيب وأتساءل بمرارة أعرف طعمها منذ الطفولة لماذا يحدث كل شيء، ولماذا لا يحدث كل شيء، لماذا أشعر بكل هذا الفراغ والخوف والغثيان في هذه اللحظة المخيفة، ولا أجد في نفسي جوابًا.

كان طعم البحر مالحًا جدًا والشمس بدأت تتوهج بتسلط غريب، رأيت البحر يبتلع بعضًا من زملائي، والبعض الآخر ما زال يصارع الموت.

داهمتني ضحكة متوازية مع رغبة عارمة في البكاء، شعرت بالظلم والحسرة والهوان، وأسلمت نفسي للأقدار موقنًا بأني سأبعث من جديد على هيئة السعادة.

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد