dark_mode
  • السبت ٢٠ / أبريل / ٢٠٢٤

"بلاتفورم" تحاكي هجرة البدون برًا وبحرًا وجوًا: يرحلون ونبقى! - جهاد محمد

نعيش خارج خارطة هذا الوطن وإن كنا بداخلها، أو إننا نقطتا حرف الياء في الكويت! نعيش ذلك منذ الانعطافة الأشد انحدارًا في سجل التعامل الحكومي مع "الكويتيين البدون" منتصف ثمانينيات القرن الماضي، تلك اللحظة التي قاموا فيها بحقن "إبرة" البنج الأولى في الجزء الأسفل من جسد الكويت، فلم يعد هذا الوطن يشعر بشيء منا، نزفت الكويت بإجهاضنا، غطوا جراحاتها بنا وراحوا يجرون جزأها العلوي لمؤتمرات حقوق الانسان!.

يُعرّف أحدهم الهجرة بالولادة القيصرية لبالغ من رحم الوطن، تلك الولادة التي يقطع بها مُهرّبك- في اللحظة الفارقة بين حياتين- حبلك السري بكل الذي آلفته، أهلك، أصدقاؤك، الهواء الذي اعتدت استنشاقه...وأشياء أخرى لا تتواجد في الغربة.
تحاكي "بلاتفورم" في هذا التحقيق هجرات بدون الكويت بشقيها القسري والطوعي، كيف ساهمت حكومة الكويت منذ الثمانينات وحتى اليوم في جعل هذا النزيف البشري جزء من الحل، دون أن يملك أحد شجاعة وضع ضمادة في الجانب السفلي للوطن، ودون أن يملك أحد جرأة لملمة أصابع كف الكويت حتى لا ننسل منها.
من مدرسة ثابت بن قيس في الصليبية إلى السويد مرورًا بسورية، ومن المنزل المقابل لفرع العطارة في قطعة ٩ إلى كندا، ومن "جليب" الوطن إلى المحيط الهادي بحثًا عن أستراليا، ومن شوارع تيماء إلى ناطحات سحاب قطر، نعيد كلًا منهم إلى حيث الخطوة الأخيرة لهم فوق هذه الأرض: برًا وجوًا وبحرًا.


"سيلفي" من قلب المحيط

"لا أعلم إن كنت سأعود إلى هنا مجددًا، طوال الأيام الثلاثة الأخيرة قبل سفري الأول وربما الأخير، كنت أحاول اختلاس النظر إلى وجه أمي وهي نائمة، ورغم ذلك لم تسمح لعيني أن تشبع منها، تشعر بأنفاسي فوق رأسها وتستفيق سريعًا، تعود مرة أخرى إلى البكاء، تصبح تجاعيد وجهها أنهرًا، تجرفها يداها إلى خارج الوجنتين بين موجة البكاء والأخرى، فيغيب وجهها عن ناظري".
لا أحد في مدرسة "الكويت الاهلية" يتفوق على "حسين" علمًا، اهتمت إدارة المدرسة به على نحو خاص هو وبعض زملائه الآخرين من الجنسيات العربية، وأصبح تفوقهم المنتظر في نتائج الثانوية العامة أفضل تسويق ممكن لجذب المزيد من الطلاب إلى هذا المكان التعليمي-التجاري.
في مكتبة بمنطقة "حولي" تلقى حسين البشرى عبر اتصال من شقيقه: "مبروك، نسبتك ٩٩.٢"، يقول عن تلك اللحظة: خالطني مزيج من الفرحة والحزن معًا، كنت أطمح إلى نسبة أعلى من هذه؛ لكنني عندما سمعت أهازيج "يباب" أمي من خلف سماعة الهاتف انتابني الرضا، أغلقت الهاتف سريعًا ورحت أضع حاجيات الزبون الذي ينتظرني في الكيس".
عندما عاد حسين إلى منزله في جليب الشيوخ، وجد أن أمه قد باعت "إحدى نيرات الذهب" التي بحوزتها واشترت علب الشوكولا ووزعتها على جيرانهم. لم يناقش الأهل مع ابنهم التخصص الذي يريد إكمال مشواره العلمي به، فكل الأبواب مغلقة في وجه متفوق بدون إلا باب الهجرة. جلس الأهل في تلك الليلة يناقشون خيارات "غربة" ابنهم، قبل أن يستقر الأمر بهم إلى أستراليا.
باع شقيقه الأكبر سيارته، وفعلت أمه الأمر ذاته في بقية نيراتها، واقترض والده جزء من ال (٣ آلاف دينار) التي طلبها المهرّب لهجرة حسين.
بعد حفلات البكاء لأيام متتالية، بات بإمكان حسين أن يسير إلى مطار الكويت وعينه خالية من الدموع تمامًا!
يقول "حسين": مؤسف أن تكون باكورة أسفارك إلى الغربة، أن لا ينتظرك أحدٌ في محطة قدمك الأولى خارج هذه البلاد، أن لا تمتلك تذكرة إياب للوطن، لا زلت أذكر تعليمات المهرب الأولية: سافر بحقيبة أمتعة واحدة، لا تحضر معك ملابس شتوية كي لا تثير الريبة فالمناخ في إندونيسيا استوائي، لا ترتبك، إن سألوك في مطار جاكرتا عن سبب مجيئك قل أنك تريد الذهاب إلى "بالي"، احرص عن أن يكون لديك ورقة حجز لمدة ليلتين في فندق معروف بالعاصمة، ولا تتصل على هذا الرقم إلا في اليوم التالي من وصولك.
نفذ "حسين" التعليمات كما يجب، لكن الخلل الوحيد فيها لم يكن هو المتسبب به بل كانت أمه: "رتبت حاجياتي في الحقيبة بعناية فائقة، لكن والدتي استغلت تواجدي في اللحظات الاخيرة لتوديع أصدقائي لتقوم  بدس كيسين من الخبز وبعض المواد الغذائية المعلبة بين ملابسي".
لاحقًا صار هذا الأمر أهم ما يملكه حسين...!
في مدينة "سومطرة" دقت ساعة الصفر، ينزل "حسين" ونحو ٥٠ مهاجر آخر في بيت متواضع لساعات قبل الذهاب إلى وجهتهم، تولى "حسين" الترجمة لبعض العرب المتواجدين معه، كان على الجميع أن يتم اتصالًا هاتفيًا في بلده الأم لتسليم بقية المبلغ المتفق عليه في عملية التهريب قبل الصعود إلى الحافلة التي ستقلهم إلى البحر، ينتظرهم هناك مركب خشبي ذو محركات في آخره، ولكن اللافت في النظرة الأولى "لحسين" من داخله كان تواجد عدد من لحم الذبائح المصفوفة فوق بعضها البعض، في حين أن المهربين طلبوا منهم جلب بعض البسكويت وقطع الخبز والماء العذب فقط!.
يقول حسين عن اللحظات الفاصلة ما بين أستراليا والموت في المحيط: "لوهلة تبدد خوفي من الموت غرقًا إلى أن أموت بين فكي سمكة قرش! عندما شاهدتها تساير مركبنا، قد شعرت للحظة أنها ستلتهمنا خشبًا وأجسادًا، لكن مهربينا كانت لديهم تذكرة للمرور من بينها دون أي خسائر في الأرواح... أقلها لهذه الرحلة، عندما أخرج أحدهم زجاجة بلاستيكية مملؤة بالدم وراح يرشها على قطع لحم الخراف ويرميها في المحيط، تسابقت مفترسات البحر إلى موائدها، ورحنا نشق الطريق بعيدًا عنها".
وفي تلك اللحظة، أخرج "حسين" هاتفه والتقط صورة "سيلفي" له في عرض المحيط بعد أن تأكد من نجاح حيلة المهربين في أن يسبق مركبهم أسماك القرش إلى شواطئ أستراليا.
وعن اللحظات الأولى له في "قارته" الجديدة يصف حسين الشعور الذي انتابه: "تربيت في مجتمع ذي نفس عنصري إلى حد ما، تعليقات الأشخاص عن البدون والوافدين جعلتني أخاف من اللحظة الأولى التي جمعتني مع رجال الأمن الأستراليين، لكنهم كانوا كرماء أكثر من كل أساطير أسلافنا العرب، عندما أعلنوا فور وصولنا عن قبولهم بأن يقاسموننا وطنهم!"


"طلال- أوباما- الثلج"

"في كندا، أصبح الثلج جزءًا من حياتي، لكني رغم كل تلك السنين التي قضيتها في درجة الحرارة المنخفضة هذه ما يزال شيء من ذرات غبار الكويت يسكن في جلدي!".
أصبح طلال مواطنًا كنديًا قبل نحو ٥ سنين، قضى ذات المدة تقريبًا هناك لاجئًا بعد أن وصلها في عام ٢٠١٠، وفي عودته الأولى إلى الوطن عُرقل في المطار لعدة ساعات قبل أن يتم السماح له بدخول البلاد، لم تتغير الكويت كثيرًا عن المرة الأخيرة التي كان فيها هنا، لكن طلال هو الذي تغير، فالشاب الذي اعتاد التسكع ليلًا في مقاهي الصليبية، أصبحت لديه ساعة بيولوجية منضبطة وإن اختلف فارق التوقيت بين محافظة الجهراء وأوتاوا.
في صباح أحد أيام يونيو الحارة، لبّى طلال طلب والدته بالذهاب إلى فرع "العطارة" القريب من منزلهم لتبضع بعض الحاجيات، لم يعد طلال مشيًا على الأقدام كما ذهب، اختار أن يهرول في طريق إيابه للمنزل، يرمي كيس الحاجيات في الصالة، ويهم مسرعًا إلى إدارة التلفاز نحو كلمة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما التي بدأت للتو في جامعة القاهرة.
كان طلال قد استمع لمقدمتها عبر صوت المذيع بوصفها الكلمة التاريخية للعالمين العربي والإسلامي.
لكن الذي لا يعرفه الرئيس أوباما أن كلمته أحدثت منعرجًا هامًا في حياة طلال الذي يقول: "حينها لم يكن لدي أي شغف بالسياسة، لكن منظر حشود الشباب المصري للاستماع إلى كلمة الرئيس شد انتباهي كثيرًا، وبعيدًا عن كل ما جاء في كلمته شدني كثيرًا كيف أصبح ابن المهاجر الإفريقي رئيسًا لأقوى دولة في العالم!".
إذن لا يزال هناك مستع في هذا العالم..
تمتمها طلال قبل أن يبدأ أولى استفساراته بين أصدقائه عن البدون المهاجرين، ثم اهتدى إلى سبيل كندا عبر أحد أقربائه.
كلفه الأمر ١٥٠٠ دينار عبر أحد الوسطاء لاستخراج ورقة رصيد بنكي وشهادة راتب وهمية بإحدى الشركات، قبل أن يدمغ موظف السفارة الأمريكية تأشيرة السياحة في صدر جواز سفره الرمادي.
يقول طلال: "قلت لموظف السفارة أنني أريد الذهاب إلى لاس فيغاس، ربما كذبت عليه قليلًا لكنني فعلًا كنت صادق في نيتي للمقامرة بحياتي في هذه الخطوة، حيث لا يوجد في جعبتي ما يمكن أن أخسره سوى أنني مدين لصديق ب١٥٠٠ دينار فقط لا غير. كل الذين ودعوني بالمطار كانوا مؤمنين بعودتي خائبًا إليهم، حتى أنني تملّكني نفس شعورهم ذاك، ربما يفسر هذا سبب إغداقي في النوم في الرحلة الأخيرة من مطار فرانكفورت إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ليست سذاجة، بل هي ربما ثقة بأنني إما أن أربح كل شي أو لا أخسر شيئا".
لم يغط طلال بالحلم الأمريكي في رحلة "نومه" تلك، كان يريد ملاذًا آخر عن بلاد "العم سام"، لكنه لم يخفِ انبهاره بنيويورك، ويصف ذلك: "لم أكد أصدق ما رأيته، وأنا أتهجأ أحرف أسماء المدن الأشهر في العالم على اللوحات الإرشادية؛ لكنني لم أقصد أيًا منها، وتوجهت بعد يوم من وصولي إلى مدينة بلاتسبورغ الحدودية، ومنها قطعت عدة كليومترات مشيًا في الغابة قبل أن أصل إلى النقطة الأمنية الأولى على الجانب الكندي".
حصل طلال الذي كان يتهجى الأحرف الإنجليزية قبل سنوات على درجة الماجستير في العلاقات الدولية من إحدى جامعات أوتاوا، وقدم أوراقه في إحدى الوظائف بوزارة الخارجية الكندية ولحين انتظار قبوله فإنه يقود سيارة أجرة هناك لكسب رزقه.
يقول طلال: "العودة إلى الكويت مكلفة، ليس على الصعيد المادي، بل على المستوى النفسي لأسرتي الصغيرة، كيف لمن اعتادوا الثلج أن يستقبلوا رذاذ الأتربة في صيف الكويت! صغرت بيوت الصليبية بعد أن كثر قاطنوها، ما يزال الشارع الذي يصل بيتنا بالعطارة متهالكًا والمياه تتجمع فيه، ذهبت إليه، وجدت الرجل الذي يبيع ما يزال يشغل مذياعه على الموجة القصيرة من أخبار
F.M الكويت... لكن مسافة طريق العودة منه إلى المنزل كانت طويلة جدًا، كأنها عمر تشقق سدىً كشوارع الصليبية".


"على باب الله ثم باب UNHCR"

"كنت طفلًا عندما تم اعتقال أبي. سألت أمي عن غيابه فقالت لي أن أطلب من الله أن يعود، رفعت يدي قاصدًا الله، طلبت منه أن يعود أبي...ولعبة، لكن أبي لم يأتِ بل ذهبنا نحن له في إحدى المدارس التي أصبحت معتقلًا للإبعاد عن الكويت. التهمة الوحيدة التي سُجنا بسببها كانت أن والدي صلى في المسجد الشيعي إبان الحرب العراقية- الإيرانية، كيف أن يكون الله تهمة البسطاء...وفي سؤاله فسحة أمل نجاتهم! لم أفهم كل هذا إلا بعد سنين طويلة قضيتها في مدينة السيدة زينب بريف دمشق مبعدًا وأسرتي من الكويت".
آخر ما تبقى لـ "مساعد" من الكويت هي شهادة ميلاده الرسمية، مدون بخانة الجنسية فيها "بدون"، لا يعرف لماذا يشعر بالحنين إليها رغم مروره بكل هذه المآسي والدهر! ربما هي العلاقة التي لا يفهمها المسؤولون وكبار أبواق العنصرية بين الإنسان ومسقط رأسه.
لعشرات المرات أعاد "مساعد" الاستماع إلى والده وهو يحكي لهم كيفية ترحيله من الكويت خلال تلك الحقبة، هو لم يمل أيضًا من إعادة حكايتها لنا من ستوكهولم، عاصمة السويد التي استقروا بها منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي.
يقول "مساعد": "لم نكن الوحيدين المبعدين من الكويت في تلك الفترة، حيث ذهب الجميع إلى سورية، ووضعتنا المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في مدارس إيواء أيضًا، وأعطوني لعبة بعد أن أخذوا مني وطنا! لو أنني طلبت من الله حينها أبي ووطنا؛ لما كنت سويديًا! حصل والدي بعد فترة على الأموال التي كان يحتفظ بها في الكويت، فاستأجرنا شقة بمبلغ رمزي في عمارة كان يملكها أحد رجال الأعمال الكويتيين، وإحقاقًا للحق كان قد سخّر معظم شققها للمبعدين معنا. عرفت الكويت أكثر عندما شاهدت حزن أبي وأمي على الاحتلال الغاشم، وفرحتهم بالتحرير، سيان عندهم إن كانوا هنا أم هناك، الأهم أن يكون الوطن بخير".
قضى "مساعد" طفولته ومراهقته بصفته بدون كويتي في سورية، وعندما عرف طرقاتها جيدًا كان يذهب كل أسبوعين إلى مكتب "
UNHCR" لجلب الإعانة النصف شهرية، فيما استطاع والده إيجاد عمل كوكيل على أملاك رجل الأعمال ذاك.
لم يفُتْهم أمر تسجيل أسمائهم في قوائم منتظري قبول التوطين في مفوضية شؤون اللاجئين، ولمّا يكن الدور قد وصلهم بعد حينما عاد مساعد إلى منزلهم مهرولًا يزف بشرى قبوله في جامعة دمشق ضمن منحة المفوضية السامية للاجئين، إلا أن فرحة الأهل بهذا الخبر لم تدُم إلا لساعات قليلة فقط، بعد أن خسروا ابنهم الأصغر "٦ سنوات" الذي توفي "متفحمًا" نتيجة لعبه في الأسلاك الكهربائية المكشوفة في زقاق شوارع مدينة "السيدة زينب".
انطفأ وميض الأسرة باشتعال النيران في جسد صغيرها، ودخلت أمهم في نوبات صرع متتالية أفقدت مساعد القدرة على استكمال دراسته كما يجب، حيث كان قد تخصص في كلية الطب بالجامعة، قبل أن يقف مجددًا على قدميه دراسيًا عندما راحت حالت أمه تتحسن شيئًا فشيئًا، وساعده هذا على أن يتخطى اسمهم طابور الاستيطان في قوائم المفوضية، أتاهم أخيرًا فرج الله وفرج السويد، فرفض والديه الهجرة مع الأبناء الأربعة المتبقين.
كان حال الوالدين مستقرًا في سورية حتى ما قبل الربيع العربي، وفي هروب الأب الثاني بسبب "مذهبه" كانت بنايتهم قد سُويت بالأرض تمامًا نتيجة القصف، وسكن العجوزان في أحد أحياء العاصمة، وحاول الأبناء جاهدين استعجال طلب "لم الشمل" عبر "
UNHCR" لكن أجل والدهم كان أسرع من ذلك.
"طوال حياتي حرصت ألّا يُرد أي طلب لأبي؛ لكنني صرت عاجزًا تمامًا عن تنفيذ وصيته بدفنه في الكويت، فمن أخرجه منها حيًا لن يسمح بعودته ميتًا" يقول مساعد مستذكرًا وفاة والده.
ومنذ أن التحقت والدتهم بهم مؤخرًا، يواجه "مساعد" طلبًا تعجيزيًا آخر، بعد أن استمعت إليه ذات مرة يتحدث عبر الهاتف مع أحد الكويتيين لاستشارة طبية، فقالت: "يمه كلمت رفيجك نرجع الكويت!".


"يا شاطر بجرحي"

ذلك العزف الجميل لا يرى له عازف! يكاد يختفي الطفل من خلف آلة العود فلا يظهر منه شيء سوى أصابع يديه التي تتراقص على الأوتار، فمن لغير الجهراء ولادةً لنجوم البدون، يتسابق منسقو الاحتفالات الوطنية على الاستعانة بصوته. شيء من هذه الأحداث في صغره جعلت الوسط الفني يشبّهون خطى الطفل سعد الفهد ببدايات جورج وسوف.
لم يُكذّب ابن تيماء المراهنين عليه، حيث راحت أشرطة حفلاته الشعبية المتواضعة تصبح أكثر الأشرطة طلبًا في سوق الغناء الكويتي بل والخليجي أحيانًا، وهو الأمر الذي دعا شركة عملاقة وهي شركة "الخيول للإنتاج الفني" إلى احتكاره ومن ثم إصدار ٣ ألبومات غنائية في غضون ٤ سنوات فقط، فجعلته يقفز، لا يسير، نحو مصاف نخبة النجومية بين فناني الخليج.
في تلك اللحظات بالذات، كان المسؤولون في دولة قطر يفتشون في أوراق مواهب بدون الكويت من لاعبين كرة قدم وفنانين وأدباء، دون أن يعتبر من في الكويت بقيمة الاستثمار في البشر!، ولم يكن سعد الفهد إلا على رأس هذه القائمة؛ لكن الانتماء لهذه الأرض جعلته يرفض العرض القطري الأول، في حين أن آخرين كعادل اللامي وطلال البلوشي وسعود غانم "لاعبي كرة قدم" كانوا في طليعة "بدون الكويت القطريين" قبل أن تكر السبحة وصولًا إلى الأديب المعروف علي المسعودي مؤخرًا.
ومع ألبومه الثالث "يا شاطر بجرحي" أصبح "عندليب الخليج" المطلوب رقم ١، ليس على صعيد طلبات الأغاني، بل على مستويات أكثر من ذلك، كان إحداها ما وصفه سعد الفهد بنفسه ذات مرة بمحاولات الأيادي الخفية في أن يتهاوى نجمه سريعًا.
نحو ٦ أشهر قضاها في السجن المركزي بسبب قضية نال فيها حُكمًا بالبراءة، ووجد سعد الفهد نفسه يخرج من تلك الغياهب أعزلًا وسط "خيول" طالبي نجوميته! فما كان منه إلا أن يعزف اللحن الأخير له في تيماء قاصدًا العاصمة القطرية الدوحة كحال من سبقوه ولحقوه من المبدعين البدون هناك، واحتاج إلى أن يستقر لعامين فقط قبل أن يطلق أحد أجمل ألبوماته الغنائية "إسحاق" وهي اسم الأغنية التي تحاكي كلماتها رمزية الحالة التي عاشها بعد الخروج من السجن.
ما يزال في الكويت من يعامل سعد الفهد على أنه المطلوب رقم واحد! هذا الفنان الخليجي "الآن" ذهبت محاولاته السابقة سدى في أن يحظى بزيارة للبلاد، حتى عندما وجهت له دعوة رسمية للمشاركة في مهرجان "هلا فبراير" كان هناك عائقًا يمنع وطنه من استقباله.
كأن لا وطنًا لسعد دون الكويت، هو عندليب هذه الأرض وإن كانت صحراء، كيف لا وثمة قبر احتضن والدته مؤخرًا؟! لو أنه حظي بفرصة وداعها ربما كان ليجلس بجانب ثراها حتى الغروب، ويذهب بعدها يغني للكويت من شوارع تيماء التي أَلِفَها:
"جيت اشتكي لك من عنا الوقت ابرتاح
لقيت نفسي أشتكي من همومك
يا عونة الله ما بقى شي ما راح
مدري ألوم الوقت ولا ألومك!"

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد