dark_mode
  • السبت ٢٧ / يوليو / ٢٠٢٤
أنواط الشجاعة - فهد حمزة

أنواط الشجاعة - فهد حمزة

كان حين يصحو صباحا يؤدي لي التحية العسكرية مبتسما بشعره الأبيض الذي لم يبق منه إلا القليل ويده التي باتت ترتجف حين يحاول أن يبقيها مشدودة بجانب رأسه علامة على قوته وصلابته واستعداده للتضحية وتطبيق الأوامر هكذا هو جدي.

ذلك العسكري الذي التحق بالخدمة العسكرية في الكويت شابا صغيرا وأصبحت الخدمة العسكرية هي كل ما يعرفه في حياته ويمجده.

كان إنسانا بسيطا جميلا في حديثه وقصصه التي لا تنتهي عن سنة الهدامة وعن الكويت قديما وأسواقها وعن المعارك التي خاضها وعن أصدقائه في تلك الحقبة الزمنية.

كنت دائما أسأله عن تلك الأحداث وأدفعه ليحكي لي المزيد من القصص ليس لرغبتي في معرفة ما حدث بقدر رغبتي في جعله يدخل في حالة السردية التي كانت تشعره بالنشوة ويبدأ وجهه الذي تهالك من الخذلان باستعادة بريقه من خلال تلك الذكريات بينما أتألم أنا لحاله راسما على وجهي ابتسامة حتى لا أكون مرآة تعكس خذلانه وتتحول سعادته إلى حسرة.

كان جدي يقف شامخا.. يحدثني عن أنواط الشجاعة.. تلك التي نالها في المعارك.

شارحا لي كل نوط وسبب حصوله عليه وتنوعت أنواط جدي بين (نوط الخدمة العسكرية البرونزي، والفضي، والذهبي، ووسام الواجب، وغيرها) وكيف كان في حرب الجولان وحكايا لا تنتهي.

ورغم رغبتي الشديدة بأن لا يتعكر صفو تلك الروح المقاتلة والفخورة كانت دائما تلك اللحظات مقدر لها أن تنتهي بجملة (هكذا فعلت وهكذا رميت في هذا الحال اليوم) ويبدأ هنا بسرد وثائقه بين إحصاء ٦٥ وبين وصل الجنسية وبين وبين الكثير من الوثائق التي سمعتها لاحقا من العديد من "البدون".

قد عاش ذلك المجند يدافع عن وطنه الذي لم يسجله مواطنا.

قد عاش يؤدي له التحية كل يوم دون أن يرد له وطنه التحية بمثلها.

قد عاش جندي كويتي غير كويتي.

وانتهت خدمته وحيدا.. بلا راتب تقاعدي.. بلا تأمين صحي.. بلا هوية.. بلا وطن..

قد مات الرقيب المكلف هادي محمد الحاصل على أنواط الشجاعة والبطولة في حرب العدوان الثلاثي على مصر وحرب الجولان. وقد أديت على قبره التحية العسكرية كما علمني أداءها.

قد مات جدي وظننت أن تلك القصص والمعاناة قد ماتت معه، إلى أن زرت يوما "ديوانية للشيبان" من "الجينكو" في منطقة "تيماء" كلهم رجال قد تعدوا الستين من عمرهم تقريبا.

كان أحدهم يحمل شهادة مهترئة من كثرة خروجها ودخولها في جيبه لأنواط شجاعته ويحكي لي أيضا قصتها..

 وآخر ذو إعاقة في إحدى عينيه، يحكي لي كيف فقدها أثناء الخدمة العسكرية وكان هو كذلك يحمل في جيبه شهادة تثبت ذلك..

وآخر يشاهد متابعا الحديث دون أن ينطق بكلمة واحدة وكأنما الإرهاق قد أصابه من تكرار قصته.

هل سيموت هؤلاء كما مات بابا هادي...؟ وتبقى أنواط الشجاعة معلقة.. بانتظار أن يروي أحد ما حكايتها؟

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد