dark_mode
  • الجمعة ١٩ / أبريل / ٢٠٢٤
ما وراء علبة سجائر - مِسك

ما وراء علبة سجائر - مِسك

 العاشرة مساءً، يجلس على كرسي تُرافقه طاولة عليها علبة سجائر وبجوارها هاتفه المُظلِم، يُشعل سيجارته يضعها في فمه يستنشقُ دُخانًا ويشرب الشاي بعدما برد، تساوت بعينيه كل الأمور، لم يعد يُبصر شيئًا مهمًا، أكلت الخيبات قلبه، والهموم أسدلت سِتار مسرحية الأمل في عينيه.

‏مللت من استراق النظر إليه وكأنني أتأمل ديكور المقهى، أضرب مخاوفي عرض الحائط من افتعال مشاجرة تبدأ بلماذا "تخزني" و أُحدق..

‏ هذا الوجه الطيب ليس غريبًا علي! يبدو مألوفًا!

‏يسقط المطر بشكلٍ غزير، سقوط قطراته على زجاج المقهى يشتت تركيزي، ترقص أصابعي على الطاولة، أُقلب الأسماء والوجوه.. يزداد صوت الصحون والملاعق إيقاعًا يتجول في خلايا عقلي، المطر يشتد وحبيبات الندى تحتضن النافذة.

‏- لو سمحت ما هو طلبك؟

‏بعربية مكسرّة قالها النادل، لا أعلم منذ متى وهو فوق رأسي وكم مرةٍ كررها، رددت بعنجهيةٍ وصوت غاضبٍ:

‏- ماذا تريد؟

‏- المنيو والطلب

‏يا إلهي! نسيت تصفح قائمة المقهى! بل نسيت أن أطلب شيئًا رغم لهفتي على القهوة الفرنسية.

‏- دعه قليلًا.. أُريد أن أسألك، الرجل الذي على الطاولة اليسرى أمامي هل يأتي بشكل يومي؟

‏- مرةً يأتي ومرةً لا.

‏- تعرف اسمه؟

‏- خالد.

‏شكرته وطلبت كوبًا من القهوة الفرنسية، ولكن خالد.. خالد! نعم هو! خالد! خالد الذي أخذني بسيارته المتهالكة بعد التحرير، والذي لم تلوّث لوحة سيارته بتبعية الكويت للعراق، استشهد والدانا سويًا في غدر ليلة الخميس، مررنا بجنود سعوديين طلبوا منا إبراز الجنسية، أخرجتها سوداء تشبه اسوداد قدر خالد، يصرخ الجندي بوجهه رافعًا السلاح:

‏- ما هذه؟ أين هويتك؟

‏أتدخل لأنقذ الموقف من الدماء:

‏- خالد كويتي هذه شهادة ميلاده، لا يمتلك غيرها.

‏- أعتذر، يمكنكما إكمال طريقكما بسلام، ولا تسيروا في هذا الشارع، أغلقناه مؤقتًا من هنا البديل.

‏أكملت دراستي الجامعية وتخرجت وانشغلت بوظيفتي الحكومية التي أتذمر منها كل صباح، لا أتذكر إلا آخر ما قاله لي خالد حينما فتحت الجامعات أبوابها لإكمال الدراسة:

‏- لا أستطيع إكمال دراستي، مصاريف العائلة تثقل كاهلي، فبعد وفاة والدي ليس لهم معيل غيري وكما تعلم بأننا محرومون من الدراسة في الجامعات الحكومية.

‏- رحمه الله، هوّن عليك.. بإذن الله ستكمل

‏- محمد، تعرف ماذا يؤلمني؟

‏- ماذا؟

‏- هذه الأرض لم تبتلع أبي فقط، بل ابتلعت أحلامي وطموحي وراحة أيامي، جعلتني نكرةً هكذا دون شيء.

‏بنبرة لم أشهدها منه من قبل، لفظ هذه العبارات من أمعائه، أدركت حينها خيبة خالد، أعترف بفشل مواساتي، اخترتُ الصمت، طبطبت على كتفه، أخذنا "صمونًا" من نبع العصير، وعلى كلام الجندي السعودي ذهب كلانا لإكمال الطريق ولكن هذه المرة كلٌ على طريقه الخاص في ربوع الجهراء.

‏هاتفي يرّن..

‏أرفع رأسي عن الطاولة بثقل، وكأن جبال الأرض كلها وضعت فوقي، المقهى فارغ.. حتى خالد لم يعد موجودًا!

‏أتحسس هاتفي بيدي الملطخة بحبرٍ أزرق

‏الاتصال العاشر من زوجتي!

‏- ألو.. محمد

‏- هلا حبيبتي، فيكم شيء

‏ألو؟ حبيبتي؟

‏ألو؟

‏فرغت بطاريته اللعينة في هذا الوقت؟؟

‏وفي ذروة غضبي من هاتفي الكريه يأتي النادل ليخبرني بوقت إغلاق المقهى:

‏- سوف يغلق المقهى بعد خمس دقائق.

‏أُلملم دفتري وأقلامي وهاتفي الذي بلا فائدة، أخرج بثورة غضب من الهاتف والغفوة المزعجة وتوقيت اتصال زوجتي وأضعها كلها في مقبض باب سيارتي.

‏خمس دقائق وهذه الإشارة لم تتبدل ألوانها، أبحث عن علبة سجائر وسط كومة "مئات الفلس" المحتفظ بها لوقت "العازة"، ‏أتلمس هذا الرف، علبة سجائر مغطاة بصورة قديمة، متشققة تكسوها حبيبات الغبار.

‏الأبراج وأنا وخالد نحمل أعلام الكويت وجندي أمريكي من اليسار، كتب بخط صغير على ظهرها بحبر أسود: "ستبقى الكويت لنا، وسيبقى حب الكويت خالدًا - 1990/2/26"

‏سيبقى خالِدًا.

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد