dark_mode
  • الخميس ٢٥ / أبريل / ٢٠٢٤
طفولة متخثرة

طفولة متخثرة


 

عصر السبت، كان جمعٌ بين الرتابة واللهيب لا يطاق، توقفنا بالسيارة عند إشارة مرور، نظرت بمللٍ، خلف الرصيف أبحث عن مدىً أتأمله.. كانت الشمس تعكس نارها على الصفيح الأبيض الممتد، نَهَرَ السطوع عينيَّ حتى رفعتهما. ألتفت لإخوتي أتطفل آراءهم بالمنطقة، ينظرون خلفها، جانبها، السقف.. لا أظنهم يتعمَّدون.. لا قصة طريفة لأبي في هذه المنطقة، إذًا هي غير موجودة.

طرق نافذتي لحظتها صبي، بعمر الأشقياء الذين معي، لم يتعدى الثانية عشرة من عمره بعد..

"ورد، أحسن ورد. وردنا!" قال، مادًا الباقات الحمراء بابتسامة صفراء، متعبًا من تكرار ترويجِهِ المبتذل. أنظر للرصيف الذي ولَّده.. مقعدان بلاستيكيان وطاولة بيضاء متنقلة. كلاسيكي. خلفهم توجد براميل مصطفة أمام منزلهم؛ الذي لا يشبه المنازل، يكاد يختفي بين البيوت، لطخةً رمادية ولطخةً بيضاء. سأله والدي غاضبًا لما لا يجلس تحت الظل ويبيع البالونات المضيئة، مثل "البقية"..

-      "يذوبون، عمي.. الشمس تسحق كل شيء."  

·       "ستسحقك وأخيك يومًا! "

يسخر من والدي والشمس: "لا، هي تعرفنا."

أرى بالورد الأحمر رمزًا للابتذال، لكن الموقف كان أكبر من ذائقتي الشخصية. سلَّته ممتلئه واليوم اقترب من آخره، أنظر للورود، ذابلة حد انكسار أعناقها.

"سأُعطيك ثمن الورد الأحمر وثمن إحضارك للورد الأبيض من دكان أبو الخير- محلُ الأخير بالشارع المقابل- اتفقنا؟"، ضحك حتى رأت الشمس كل أسنانه، "اتفقنا"، ركض.

جفلت لأخيه خلفه مباشرةً، يحملق عبر النافذة، يركز بالعدم ويدعك أنفه بأصابع متسخة. أقصر من شقيقه، الثوب الأصفر يفيض من كتفيه الصغيرين، وزاد طوله حذاء واسع يبدو أنه ورَثهُ أيضًا من شقيقه، بجانب الحظ الرديء.

بكم؟ أسأله. يأتيني الجواب من خلفه: "قل لها دينار ونصف.. إياك أن تنسى النصف!"

لم أعثر على مصدر الصوت حتى التفت الولد لما هو خلف البراميل: "حاضر!"

لحقت عيني ركبتين مبتورتي الساقين.. فوقهما جثة كهل ثقيل النفس، يستند على جدار إسمنتي عاري، بدا كجذعٍ مبتور عتَّقه الزمن..

-      "دينار ونصف للأحمر، ستة دنانير للأبيض.. أبو الخير لا يحبنا، يرفع أسعاره في وجهنا."

 قال الصغير بنبرة تشبه نبرة أخيه المتعبة من التكرار، وعدّ المال.

دفعت المبلغين على عجل لأن الإشارة اخضرَّت، أخذت الوردة الحمراء على أن أمره غدًا لورود أبو الخير.

تدافعت السيارات خلف بعضها حتى شعرت بأني أتحرك بفعل موجة لا عجلات. عاد واشتبك الشارع من خلفنا. أظنه حادث تسبب به سائق لا يحتمل فراق غدائه أكثر من هذا.

ظهر الأحد، مررنا بالشارع ذاته، وانتظرني مقعد لا مقعدين. ابتسمت.. على الأقل أحدهما يذهب إلى المدرسة. عاود أبي تدخله وسأل الصغير لماذا يجلس وحده تحت الشمس. أومأ الولد جهة أبيه يطمئن والدي، هناك.. يميلُ بعمرهِ وغمِّه على ركبتيه، بثوبٍ مُخطط كان قد قصَّره حتى يناسب طوله الجديد. الشمس عامودية لا تترك مجالًا لظلٍ واهن تصنعه البراميل، مثل ظل الأمس. هي التي كانت قد رفعت جنات عدنٍ بالشارع المقابل. الغرغرينا، يهمس والدي محوقلًا.

اقترب الصغير أكثر بوجهه المشدوه، وعينين محمرتين، بكى الليل بالتأكيد. كنت سأبكي هكذا وأكثر لو ذهب أخوتي دوني للمدرسة. مد وردةً حمراء، لم أستطع رده. أخذتها وذكرته بالذي دفعت سعره أمس.

" كان مع أخي.. بقيت للعمل وحدي" قال.

ظنيته ينتظر مني عزاءً، لم أعلق، لم يبدُ صائبًا لي أن أعطيه أملًا، ليس مني.. أنا بالكاد أعطيهِ الدنانير.

" لا أحزن، تعرفين؟ تقول أمي هناك لديهم مدارس تكفي الكل، وبالمجان! تخيلي! عجيب!.. يكون قد حصل على كل ما كان يريد.."

ثرثرته لا توافق شكله المتعب، هرب نحو طاولته قبل أن أترجم حيرتي لسؤال. وعاد بالورود.

قال وبه حرج: "آسف، حاولت تجميعها قدر المستطاع. الأمانة أمانة. يقول والدي."

أخذتها وعيني على والده، أنتظر إجابته: "لا بأس.. وكم للوردة الحمراء؟ "

التفت الصغير نحو البراميل، صرخ صوت لعمقه ظننته جاء من قاع بئر: "آهٍ يا ساقي، آهٍ يا روحي، ذهبت الساق!"

العجوز يجهش ضاربًا على ركبته اليمنى. يحرث التراب بيدهِ ويشدّ عليه. أعاد الولد وجهه لي مصفرًا ودمعه يركض مع عرقه، صامتًا، أعطيته دينارًا ونصف، لم أنسى النصف. مشينا. انتبه أنفي لرائحة قمامة، الورد متسخ ومغبرّ، لا يبدو خارجًا من أيّ ثلاجة.. متى أوقعه؟ الندى أحمر جاف. يتقشر على أصابعي ليُدينها مع أيديهم، لم تقع الباقة، لم تقع وحدها على الأقل، فهمت.

لم يذهب أحد إلى المدرسة.

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد