dark_mode
  • الأربعاء ٢٤ / أبريل / ٢٠٢٤
المبادرة وآخر جدار للتهميش - آدم الكوني

المبادرة وآخر جدار للتهميش - آدم الكوني

"عندما يكون العمل لذة تكون الحياة بهيجة، أما عندما يكون العمل واجباً فالحياة استعباداً".

حينما كتب غوركي مسرحية الحضيض لم يكن يعي أن "البدون" عندما اتخذوا الوطن واجباً كان بهيجاً جداً، حتى أنهم تذوقوا الاستعباد لذيذاً من أجل عيون الكويت؛ لم يكن العزل الذي مورس عليهم مدعاة لفصلهم عن واقعهم المرير، ورغم قساوة الظروف استقبلوا التهميش بصدر عارٍ متنازلين عن دروعهم للوطن كي يصد بها الحروب والأوبئة.

قد ترى سرب المواطنة محلقاً وإن اقتربت أكثر من رمال الصحراء الحارقة ترَ "البدون" ينابيعَ صافية تسقي مفاصل الدولة منذ نشأتها، مؤمنين أنها الملاذ الأوحد والقريب إلى قلوبهم وإلى المنطق كذلك؛ كانوا العنوان العريض رغم التهميش الذي قوبل به عملهم الدؤوب وحلمهم على تقلبات أمزجة التشريعات التي لا تقف عند محطتهم غالباً.

التهميش لغة مأخوذة من هامش الورقة، حيث يدوّن الشخص ملاحظاته الشخصية على أطرافها، ويمكن القول إنه أمر ثانوي أو زائد عن الحاجة، من هنا نفهم أن التهميش اجتماعياً يعني إبعاد الفرد أو الجماعة وإقصاؤهم إلى هامش المجتمع، حيث يمكن العودة لهم متى استدعت الحاجة.

ومن التعريف يتّضح أن هذا الأمر تم عن قصد وقد يكون عملاً ممنهجاً؛ فالتهميش في الكويت يقودنا إلى التفكير ملياً بقضية "البدون" تلك الفئة التي تطفو على السطحـ مع ذكر القضايا الإنسانيةـ بعد تعرضها إلى التهميش على مستويات عدة أبرزها:

المستوى الثقافي: يمكن القول إن النسيج الثقافي المتعدد هو مصدر قوة وإلهام في الدول التي تعتمد على الهجرات، والتعدد يقودنا منطقياً إلى الاختلاف في العادات والمذاهب واللهجات وأسلوب حياة، نظراً لاختلاف مشارب الوافدين على هذه الدولة وتعدد هوياتهم الفردية أو الجماعية.

 لكن في التجربة الكويتية نرى أن اعتماد لهجة بذاتها تابعة لفئة معينة كصك يجيزك إلى العبور نحو الوطنية هو ما يقود البعض نحو التهكم على اللهجات في بعض المناطق التي يقطنها "البدون" وهم أبناء قبائل بدوية مختلفة، وخصوصاً تلك التي تقطن شمال الكويت نظراً لقربها من العراق. وهذا قطعاً مثال صارخ للتهميش الثقافي الممنهج الذي قد ينتقل من جيل إلى آخر. بيد أن الوعي المجتمعي الذي يتحلى به جل أبناء "البدون" قادهم إلى الاندماج الثقافي وتحطيم جدار العزل من حيث الفاعلية المجتمعية وانخفاض معدلات الجريمة في بيئة قد تكون دافعاً إلى ما لا تحمد عقباه.

المستوى السكاني: لو فرضنا جدلاً أن اختلاف اللهجات مشكلة تستدعي الحل، فكيف يمكن دمج مجتمع مورس عليه العزل السكاني منذ عقود دون أدنى احترام لخصوصيته الثقافية أن يندمج؟ رغم تلك التحديات نجح البدون في عملية الاندماج المجتمعي متجاوزين أسلوب التهميش المنظم من قبل بعض فئات المجتمع أو حتى المُشرّع.

المستوى التعليمي: ما لا يعرفه الكثيرون هو أن المستوى التعليمي في مناطق "البدون" متدنٍّ جداً من حيث الأبنية أو حتى الكادر التعليمي باعتبارها مدارس خاصة ذات طابع ربحي، التساؤل الذي لازم قضية "البدون" على مدار سنوات (هل كان هذا الإهمال عن قصد أم أنه تقصير من بعض المسؤولين؟) قد لا نجد إجابة عن هذا التساؤل لكن في كلا الحالتين يندرج الأمر تحت طابع التهميش الذي لم يثنِ البدون عن التفوق في ظل هذه الظروف بل واستكمال تعليمهم على نفقاتهم الخاصة أو بعض المحسنين قاهرين التهميش ومحطمين بذلك جداراً آخر.

المستوى الاقتصادي: قد يكون تدني رواتب "البدون" حائطاً آخر من الخيبة والحزن لكن كثيرين لا يعلمون أن هذا الراتب المتدني الذي يعادل ربع سلم الرواتب في الكويت متوقف منذ شهور نتيجة سياسات الجهاز المركزي الذي وضع لمعالجة القضية فاتبع طرقاً قاسية في التضييق على البدون. وقد تكون الكلمات إلى هنا كلمات من قصة حزينة إذا لم نوضح أن هناك أطباء منعوا من الراتب وأطباء استُغني عن خدماتهم أو حتى لم يعينوا، بينما من طوع أنفسهم هبوا في الصفوف الأمامية للتصدي لجائحة كورونا رغم إدراكهم مسبقاً أنهم سينتصرون في معركة يذهب الاحتفاء بها إلى غيرهم وسينزفون من أجل شعور آخر جميل غير مادي وسيحطمون جداراً وينتظرون آخر من أجل الكويت..

على مدى 60 عاماُ أو أكثر كان زاد البدون هو التحدي، ما أكسبه مناعة ضد كل ممارسات التضييق، فسياسة (التجهيل) جعلته طبيباً أو ممرضاً أو مهندساً أو معلماً.. وسياسة الإقصاء والنفي ضاعفت وطنيته وانتماءه وبقي الأكثر إخلاصاً في السلك العسكري رغم ابتزازه بعدم تسليمه راتبه!

وسيبقى البدون مثالاً للتضحية في الكويت.

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد