dark_mode
  • السبت ٢٧ / أبريل / ٢٠٢٤
البدون في الكويت: من فئة إجتماعية مهمّشة إلى ثروة بشرية محلية منتجة - أحمد السويط

البدون في الكويت: من فئة إجتماعية مهمّشة إلى ثروة بشرية محلية منتجة - أحمد السويط

مقدمة:

لقد كشفت جائحة كورونا (COVID-19) عمق الكثير من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية حول العالم، بما في ذلك دولة الكويت التي تعاني من معضلتين أساسيتين هما قضية عديمي الجنسية (البدون) التي لا يخلو بقاؤها معلّقة من التداعيات السلبية على استقرار المجتمع الكويتي، والإصلاحات الاقتصادية المتعطّلة، والتي تتطلب، حسب التقارير الاقتصادية الاستشارية، تخفيض الدعوم عن الخدمات العامة، والبدء بفرض الضريبة على الشعب، وتشجيع الاستثمارات الأجنبية (انظر-على سبيل المثال- تقرير ستاندرد اند بورز لعام 2021). تكمن العلاقة بين قضية البدون والإصلاحات الاقتصادية في دولة الكويت في صعوبة —إن لم تكن استحالة— فرض ضرائب على فئة اجتماعية مهمّشة يعاني أفرادها من عدم وجود مصادر للدخل، ناهيك عن أنّ وجود مشكلة اجتماعية بحجم قضية البدون في الكويت يعتبر عامل خطر (Risk Factor) وفق منظورات تحليل بيئات أسواق العمل الداخلية والخارجية (PESTEL & SWAT analysis)، وهذا ما لا يشجع الكثير من المستثمرين الأجانب على الاستثمار في دولة الكويت. ولكن ربما ما هو أهم من ذلك أن الاستمرار في تجاهل قضية البدون يشكّل جانباً من جوانب الهدر في إنتاجية الموارد البشرية المحلية في الكويت. وحيث أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها البدون لا يقتصر تأثيرها عليهم فقط، بل من الممكن أن تنعكس سلبًا (أو إيجاباً) على المجتمع الكويتي ككل، فإن هذا البحث يهدف إلى اقتراح منهجية للتعامل مع البدون من شأنها التصدي للظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تعمّق معاناتهم الإنسانية، كما تساهم في تحويلهم من فئة مهمّشة إلى ثروة بشرية محلية منتجة تلعب دوراً أساسياً في تحقيق التنمية الاقتصادية لدولة الكويت.

مفهوم رأس المال البشري

 يقترح هذا البحث التعامل مع البدون وفق مفهوم رأس المال البشري (Human Capital) الذي كان من أبرز من سلطوا الضوء عليه عالم الاقتصاد والخبير الاقتصادي الأمريكي جاري بيكر (Gary Becker). تعرّف الخبيرة الاقتصادية وأستاذة علم الاقتصاد بجامعة هارفارد كلوديا جولدين (2016) رأس المال البشري على أنه مخزون المعرفة والمهارات والصفات الشخصية والاجتماعية التي يكتسبها الإنسان خلال حياته ويتمكن من خلالها من أداء العمل بشكل يؤدي إلى إنتاج قيمة اقتصادية. وفي ظل تداعيات جائحة كورونا تبنى البنك الدولي (2020) "مشروع رأس المال البشري" للتصدي للأخطار والاختلالات الاقتصادية الناتجة عن تجاهل الاستثمار في الموارد البشرية بشكل ينعكس على الاقتصادات الوطنية والعالمية سلبيا ويجسّد خسارة في الإنتاجية العمّالية المحتملة في الأجيال المستقبلية من القوى البشرية، حيث تشير البيانات التي قامت دراسة البنك الدولي بتحليلها إلى أن البلدان التي لديها أقل استثمارات في رأس المال البشري اليوم تنخفض إنتاجية القوى العاملة المستقبلية فيها إلى الثلث أو حتى إلى النصف مقارنة مع مستويات الإنتاجية التي يمكن الوصول إليها إذا توفر للناس تعليم عالي الجودة وصحة (بدنية ونفسية) أفضل. ومن الجدير بالذكر أن بيانات البنك الدولي تشير إلى أن معدل عدم الاستفادة من إمكانيات القوى العاملة في دولة الكويت حسب مؤشر رأس المال البشري (مقياس 0-1) لعام 2020 هو 0.4، أي أن متوسط الإنتاجية الاقتصادية المستقبلية للإنسان الذي يولد في الكويت اليوم ويحظى بفرص تعليم وصحة بالمستويات المتاحة حالياً لن يتجاوز 0.6، علماً بأن مؤشر رأس المال البشري في الكويت يشهد انخفاضاً مستمر منذ عام 2010، كما أن معدّل الإنتاجية وفق هذا المؤشر يعتبر أقل من المتوسط في البلدان ذات الدخل المرتفع. إن رأس المال البشري هو المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي المستدام والحد من الفقر، ذلك لأن الناس يميلون إلى أن يصبحوا أكثر إنتاجية ومرونة وابتكارًا عندما يتمكنون من تطوير معارفهم ومهاراتهم وصحتهم. هذا التصور ينسجم إلى حد كبير مع مفهوم "سلّم الاحتياجات" (Maslow’s hirarchy of needs) الذي تقدّمه "نظرية التحفيز البشري" لعالم النفس الأمريكي أبراهام ماسلو (1943)، التي نشأت في علم النفس التنموي، كما تشكّل إحدى أهم أدوات خبراء الإدارة وتنمية الموارد البشرية. ويشرح سلّم ماسلو للاحتياجات البشرية تراتبية الحاجات التي يمكنها أن تحفّز سلوك الإنسان وتتيح أمامه فرصة أن يبلغ مرحلة الإبداع والابتكار، ومن أهم تلك الحاجات الشعور بالأمان والاحترام والتقدير. ولكن، مع شديد الأسف، فإن معدل الهدر في الإنتاجية المستقبلية للقوى البشرية من البدون يكاد يبلغ 100%، وذلك بسبب تجاهل حل قضيتهم إلى الآن، مما يقلّص فرصهم للحصول على تعليم جيد وصحة نفسية وجسدية. أمّا إذا تم الاستثمار في تعليم البدون وطاقاتهم ومهاراتهم، والتعامل معهم على أنهم ثروة بشرية محلية منتجة، فإن تطوير مهاراتهم، إلى جانب تقاربهم الثقافي من المجتمع الكويتي، من شأنه أن ينعكس إيجابياً على جوانب حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، كما يتيح للدولة إمكانية توظيف كفاءات أعداد كبيرة منهم والاستفادة منها تنفيذ مشاريع التنمية الاقتصادية.

إيجابيات الاستثمار في طاقات وكفاءات البدون

لقد رأينا كيف عمّقت جائحة كورونا معاناة الكثير من الأفراد والأسر البدون الذين فقدوا مصادر دخلهم نتيجة إجراءات الاحترازات الصحية الحكومية التي فرضت التباعد الاجتماعي وحظر الخروج من المنازل، وكذلك نتيجةً لإجراءات التقشف التي اتخذتها بعض الشركات في القطاع الخاص لتفادي أو تقليل خسائرهم المادية في ظل عدم الاستقرار الاقتصادي في البلاد والعالم بشكل عام. كذلك فقد رأينا كيف شكّلت الحاجة إلى شراء مستلزمات الوقاية والتعقيم أعباء اقتصادية إضافية على الأفراد والأسر البدون الذين في أغلب الأحيان لا يوجد لديهم مصدر دخل سوى ما تقدمه اللجان الخيرية وبيت الزكاة. وبشكل عام نرى وسائل التواصل الاجتماعي تكاد تكتظ بالمناشدات الإنسانية بشكل شبه يومي لإعانة شخص أو أسرة بدون على شراء مستلزمات أساسية، أو للحصول على علاج أو عملية جراحية ضرورية، أو لتسديد رسوم دراسية أو إيجار مسكن. هذه الظروف الاقتصادية الصعبة تؤدي في الغالب إلى تدهور الوضع الاجتماعي للبدون، حيث تساهم في زيادة الخلافات الأسرية، وبالتالي التفكك الأسري، نتيجةً للضغوطات النفسية المصاحبة للحرمان من أبسط مقومات الحياة الكريمة، كما يساهم الإحباط الذي يعاني منه البدون في انتشار ثقافة اليأس من الواقع البائس ومحاولة الهروب منه عن طريق الهجرة غير الشرعية أو عن طريق الانتحار الذي بلغت الحالات المعلنة منه بين أوساط البدون منذ عام 2019 ثمانية حالات. ولكن كيف سيساهم الاستثمار في طاقات وكفاءات البدون في تحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي لهم وللمجتمع الكويتي بشكل عام؟

وفق مفهوم رأس المال البشري، ونظرية التحفيز البشري، فإن تشجيع الأفراد البدون والاستثمار في تعليمهم وطاقاتهم وكفاءاتهم ينعكس بشكل إيجابي على تحصيلهم المعرفي، ويمكنهم من تطوير مهاراتهم وتوظيفها بشكل يؤدي إلى إنتاج قيمة اقتصادية لهم ولأسرهم وللمجتمع الكويتي. وبحكم تقاربهم الاجتماعي والثقافي من المجتمع الكويتي، فإن البدون ستكون لديهم القابلية لأن يشكّلو إضافة إيجابية للقوة العاملة المحلية المنتجة، كما أن ما سيحققونه من دخل سوف يدخل في الغالب في دائرة الاقتصاد الكويتي المحلي، وكذلك فإن كل ما يودعونه في المصارف الكويتية من الممكن أن يساهم بشكل أو بآخر في نمو القطاع المصرفي والمشاريع الاقتصادية المرتبطة به، ناهيك عمّا توفره الاستعانة بكفاءات البدون من مصاريف الإقامة وما صاحبها بالمقارنة مع الاستعانة بكفاءات أجنبية من الخارج. وإلى جانب الاستثمار في تعليم وتطوير مهارات البدون، فإن منهم من شقّوا طريقهم بأنفسهم وحققوا إنجازات علمية مهمة على المستويين المحلي والعالمي، ولعل من أبرز الأمثلة الحالية بروفيسور أمراض القلب والباطنية بمستشفى جامعة ديوك في الولايات المتحدة الأمريكية، وخبير فحوصات القلب على المستوى الإكلينيكي والفيزيائي والبحث العلمي، الدكتور فواز العنزي.  ولقد كشفت جائحة كورونا عن الدور المهم الذي لعبه المؤهلين من البدون في القطاع الطبي إلى جانب زملائهم من المواطنين الكويتيين والمقيمين في الكويت من جنسيات مختلفة، ولعل الأطباء الأشقاء الأربعة محمد وحنان وإيمان ومنال الشمري خير مثال. وفي الواقع لا يقتصر المؤهلون البدون على القطاع الطبي فقط، فمنهم المختصون في العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية وعلم الاقتصاد ممن يمكن الاستثمار في مؤهلاتهم في تطوير جودة التعليم وسد النقص في الموارد البشرية المختصة في القطاعين الخاص والعام في دولة الكويت.

إن معالجة قضية البدون بهذه الطريقة سوف تساهم (ولو جزئياً) في تنفيذ خطط ومشاريع الإصلاحات الاقتصادية المعلّقة في البلاد، لا سيما خطة العمل بنظام الضريبة، وتنويع مصادر الدخل. أمّا تأثير مثل هذه المبادرة على ملف حقوق الإنسان الكويتي في العالم، فلا شك أنها سوف تلقى ترحيباً محلياً ودولياً، لا سيما من قبل المهتمين بمجالات حقوق الإنسان والتنمية البشرية وقضايا عديمي الجنسية، كما أن هذه المبادرة سوف تساهم في تشجيع الاسثمار الأجنبي، ناهيك عن آثارها الإيجابية على مستوى تعزيز الجبهة الداخلية لدولة الكويت، وتحقيق المزيد من الاستقرار في المجتمع الكويتي بإشراك فئة اجتماعية كاملة في خطط التنمية الاجتماعية والاقتصادية بدلًا من إبقائهم مهمّشين ومعرّضين للاستغلال والجريمة.

الخلاصة

إن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المصاحبة لجائحة كورونا (COVID-19)، وما سيليها، وكذلك الوضع العالمي الملتهب على مستوى الصراع الحالي بين أقطاب القوى الاقتصادية في العالم (روسيا ودول الغرب)، تتطلب موقفًا حاسماً من أصحاب القرار في دولة الكويت لمعالجة القضايا المحلية العالقة بشكل جذري، لا سيما قضية عديمي الجنسية (البدون) التي تتفاقم تداعياتها مع مرور الزمن. وإلى جانب استحقاق هذه القضية التي عانت منها أجيال متعاقبة من البدون، فإن معالجة هذه القضية سوف يصب في مصلحة خطط ومشاريع التنمية الاقتصادية الحالية والمستقبلية لدولة الكويت. الإنسان لبنة المجتمع الأولى، والاستثمار في طاقات وكفاءات الإنسان البدون سوف يؤدي إلى تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها، كما أن ذلك سوف ينعكس بشكل إيجابي على الأسر البدون وعلى المجتمع الكويتي بشكل عام. وبهذا فإن دعم وتحفيز الأفراد البدون، والاستثمار في تعليمهم ومهاراتهم وفق مفهوم رأس المال البشري سوف يساهم في تحويلهم من فئة مهمّشة تتحمل أعباء اجتماعية واقتصادية مدمّرة إلى ثروة بشرية محلية منتجة تحفّز جهود التنمية الاجتماعية والاقتصادية في دولة الكويت وتعزز مكانتها المدنية والحضارية على مستوى العالم.

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد