dark_mode
  • الأربعاء ٢٤ / أبريل / ٢٠٢٤
لماذا ينتحر عديمو الجنسية (البدون) في الكويت؟ - أحمد السويط

لماذا ينتحر عديمو الجنسية (البدون) في الكويت؟ - أحمد السويط


مقدمة

بعد إشعال الشاب البدون طلال النار في نفسه محاولاً إنهاء حياته، طلب مني بعض العاملين في مجال السياسة في الكويت تقريراً عن ظاهرة انتحار البدون، وكان من المثير معرفة أن السياسيين يحتاجون إلى رؤية اشتعال النار في أجساد البدون حتى يفهموا أن هناك مشكلة، وليس ذلك فحسب، بل إنهم أيضًا يركزون على المنظور النفسي دون سواه لدراسة ظاهرة اجتماعية- سياسية! وهذا ما أعتبره مؤشرًا خطيرًا على عدم وجود بنية تحتية فعّالة في الكويت تختصّ بدراسة الظواهر التي تهددالمجتمع وفهمها وإيجاد حلول لمنعها، لا سيما ظاهرة الانتحار التي سأحاول تعريفها وشرحها بشكل مبسّط من منظور اجتماعي- سياسي في سياق قضية عديمي الجنسية (البدون) في الكويت.

ما هو الانتحار؟

الانتحار هو أن يُقدم الإنسان على إنهاء حياته بنفسه، تعبيرًا عن الشعور بالإحباط والخيبة وفقدان الأمل بجدوى الخيارات المتاحة أو اليأس الناتج عن انعدام الخيارات أساساً. ولتعلّق الانتحار بجوانب معنوية كالشعور بالإحباط وفقدان الأمل، كان من المفيد تسليط الضوء على العوامل النفسية، مع التحوّط من ألّا يشغلنا التحليل النفسي عن السياق السياسي والظروف الاجتماعية- الاقتصادية الناتجة عنه، وهذا ما بدا جليًا في ملابسات حادثة انتحار الشاب البدون طلال، والتي كانت وبشكل واضح وصريح نتيجة ضغوطات ومؤثرات اجتماعية- سياسية سيتم التطرّق إليها الآن.

العوامل النفسية والاجتماعية المرتبطة بظاهرة انتحار عديمي الجنسية (البدون) في الكويت

في سياق قضية عديمي الجنسية (البدون) في الكويت، ونتيجة للظروف المعيشية البائسة المفروضة على هذه الفئة الاجتماعية التي تعيش الحرمان من الحقوق السياسية والمدنية الأساسية (كحق السكن والرعاية الاجتماعية)، والتي تعاني من التهميش منذ استقلال الدولة عام 1961، شاعت ظاهرة الانتحار بين أوساط البدون وأصبح شبحها يهدد جميع أفراد هذه الفئة الاجتماعية المهمّشة وأُسرهم، لا سيما بعد تطبيق سياسة التضييق وممارسات الضغط والشيطنة ضد البدون منذ عام 1986، بدءاً بتسميتهم’مقيمين بصورة غير قانونية‘- التي وصفها أستاذ العلوم السياسية د. غانم النجار على أنها ممارسة للضغط النفسي- ووصولاً إلى إفقارهم وتجهيلهم بشكل ممنهج عن طريق حرمانهم بشكل متعمد من التعليم بجميع مراحله ومن العمل والزواج والرعاية الصحية والتنقل وغير ذلك من الاحتياجات الإنسانية الأساسية التي يحتاجها الإنسان ليتمكن من ممارسة حياته اليومية بشكل طبيعي.

والجدير بالذكر أن وصف ما يعانيه البدون بالضغط النفسي والاجتماعي ليس تحليلاً أو استنتاجاً خلص إليه البدون بل إنه واقعٌ عمليٌ تعيشه هذه الفئة نتيجة سياسة رسمية تنتهجه الدولة في تعاملها مع البدون، وهذا ما صرّح به وأكّده وكيل وزارة الداخلية السابق وأحد أفراد الأسرة الحاكمة في الكويت (مازن الجراح الصباح) على الهواء مباشرة وبلباسه العسكري في لقاء تلفزيوني مع مقدم البرامج عمّار تقي عام 2015. وحيث أنني أنتمي إلى فئة البدون وباحث في قضيتهم وشؤونهم، ربما يمكنني أن أصف بإيجاز تفاصيل الحرب النفسية- الاجتماعية التي صّرح بها مازن الجرّاح وآثار هذه الحرب التي دقّت الحكومة طبولها ضد مجموعة من المدنيين العزّل والتي بلغت في شدّتها أنْ دفعت شبابنا وشابّاتنا إلى إنهاء حياتهم بالانتحار.

لتجسيد الحالة النفسية التي يعيشها مجتمع البدون وتقريب المعنى؛ سأستعين بظاهرة اجتماعية أخرى وهي العنف الأسري التي دائمًا ما يكون ضحاياها الأطفال والنساء الذين يتعرضون بشكل ممنهج للانتقاص والتهميش أو التنمر أو التهديد أو الضرب على يد من هو أقوى منهم مادياً ومعنوياً. ماذا لو كان من يضطهد الأطفال والنساء يفعل ذلك باسم القانون؟ ماذا لو لم يملك الأطفال والنساء القدرة على التعبيرعمّا يمرون به من آلام؟ ماذا لو كان تعبيرهم عن نفسهم محلّ سخرية واستهزاء الكثيرين ممن يعيشون معهم في نفس المجتمع؟ ماذا لو لم يكن لديهم وسيلة للخروج من البيت الذي يتعرضون فيه إلى الاضطهاد؟ ماذا لو لم يكن لديهم القدرة المادية أو المعنوية للفرار إلى مكان آخر؟ ماذا لو كانت ضريبة مغادرة المكان الذي يتعرض فيه الإنسان للأذى هي أن يعيش بقية حياته بجسد تائه في الغربة وروح مبتورة من جسدها تحوم حول ذكرياتها وما تبقّى من أحبّتها في موطنها الأصلي؟

تتعدّد الضغوطات النفسية التي تدفع البدون إلى الانتحار، مثل تراكم الشعور بالخوف من القمع إن حاول التعبير عن معاناته بطريقة أخرى، أو فقدان الثقة بالنفس نتيجة ممارسات التهميش التي تمكّن من خلالها العنصريون ووسائل الإعلام الخادمة لمصالحهم من ترويج نظرتهم الدونية وتحويل لهجات البدون وممارساتهم وظروفهم الاجتماعية إلى موضع سخرية واتهام، أو احتقار الذات الذي نشأ عليه الكثيرمن أطفال البدون وهم يسمعون ويشاهدون أهاليهم يخفون هويتهم الاجتماعية القبلية الشمالية التي مزّقها الإعلام الرسمي وشوّه سمعتها تبعًا لاتجاه رياح النزاعات السياسية الإقليمية، فالبدون قبل الغزو العراقي اتُّهموا ونُكّل بالكثير منهم بحجة أن خلفياتهم الحضارية ومعتقداتهم الدينية تدل على أنّهم غير مؤيدين لممارسات الصديق والحليف الإقليمي آنذاك ’صدّام حسين‘، أمّا بعد الغزو العراقي فقد أصبح وما زال الكثير من البدون عرضةً للتنكيل بتهمة ’التعاون مع صدّام‘.

إن ما يدفع الكثير من البدون إلى الانتحار بدلاً من التعبير عن معاناتهم بطرق أخرى هو فقدانهم الوسيلة والأمل معاً، فهم يعجزون عن فهم ومواجهة الانتهاكات الجسيمة التي يتعرضون لها باسم القانون، لا سيما في ظل الحرمان الممنهج من التعليم- العالي خصوصاً، ناهيك عن اليأس المكتسب من خيبات الأمل الناتجة عن محاولات تغيير ماتت في مهدها في ظل غياب شرف الخصومة السياسية وتواطؤ الإعلام الموجّه، واللافت في هذا السياق أنه وفي أغلب الأحيان نرى أن البدون، حتى قبل أن يُقدم على الانتحار، لا يوجه رسالته السياسية بشكل مباشر خوفاً مما سيتعرّض له أهله من ملاحقات أمنية على الرغم من فجيعتهم بأبنائهم المنتحرين، وهذا ما حدث لأسرة الشاب طلال الذي أقدم على الانتحار عن طريق إشعال النار بجسده، حيث ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي برسائل تهديد وابتزاز لأسرة الضحية وتشويه سمعتهم عن طريق المروجين لبضاعة الجهاز المركزي لمعالجة أوضاع المقيمين بصورة غير قانونية، ولعلني في مقالات لاحقة سوف أستعرض بمزيد من التفصيل الكثير من حالات انتحار بين أوساط البدون- لا سيما من النساء- والتي قد تم إسكات أهاليهم والتكتيم على قصصهم بأساليب ترهيب تنطلي بسهولة على البسطاء من البدون كالتهديد بالقيود الأمنية والإبعاد من البلاد بحجة الأصول الشمالية. أمّا الآن فدعونا نركز على تطور حالات الانتحار بين صفوف البدون.

تطور حالات انتحار البدون من حيث الكم والكيف

منذ يوليو عام 2019، شهدت حالات انتحار البدون تطوراً خطيراً من حيث الكم والكيف، وذلك نتيجة الضغوطات النفسية والاجتماعية الممنهجة من ناحية، ونتيجة القمع وسلب الحق في حرية التعبير عن الرأي من ناحية أخرى، فلا يخفى على المطّلع على وضع البدون في الكويت حجم القمع الذي تعرّض له أعضاء هذه الفئة الاجتماعية وأشكاله من ضرب واعتقالات وملاحقات وقيود أمنية منذ أن بدأوا بالتعبير عن معاناتهم في حراكهم السياسي السلمي عام 2011، وهناك من الأدلة والتقارير المحلية والدولية (الحكومية وغير الحكومية)التي وثّقت الانتهاكات التي يتعرض لها البدون منذ فبراير 2011 ما يصعب إحصاؤه، ولعل من أبرز تقارير منظمات حقوق الإنسان ما وثقته منظمة العفو الدولية في تقريرلها عام 2019.

بالنسبة لظاهرة انتحار البدون من حيث الكم فقد وصل عدد الحالات المعلنة حتى ديسمبر 2020 إلى خمس حالات، وأما من ناحية الكيف فقد تضمنت الحالات إقدام البدون على حرق أنفسهم كوسيلة احتجاج على الظروف الاجتماعية والاقتصادية المفروضة عليهم، وهذه الظروف تؤدي إلى شعور الإنسان البدون- نفسيًا واجتماعيًا- بعدم أهميته واحتقاره لذاته وقيمته، ليس أمام مجتمعه فحسب؛ بل أيضاً أمام أسرته ونفسه، حيث يرى ذاته غير مفيدة ولا قيمة لها مادّيا أو معنوياً. ونتيجة للقمع ومصادرة حق الإنسان البدون في التعبيرعن رأيه ومعاناته فإنه يلجأ إلى الانتحار كوسيلة للتعبير والخلاص من عذابات المعاناة التي يعيشها نتيجة الظروف المفروضة عليه.

أبعاد ظاهرة انتحار البدون السياسية ودلالاتها

الانتحار عن طريق إشعال النار بالنفس له أبعاد ودلالات سياسية واضحة بطبيعته، ذلك أنّ الظروف النفسية والاقتصادية والاجتماعية متصلة جوهريًا بالبيئة السياسية، كما أنّ الانتحار عن طريق إشعال النار بالجسد مرتبط تاريخياً وثقافياً بالاحتجاج ضد الظلم. لعل أقرب مثال في التاريخ السياسي الحديث هو حادثة الشاب التونسي محمد البوعزيزي الذي أضرم النار في جسده عام 2011 احتجاجاً على الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي كان يعيشها وممارسات القمع التي فرضتها عليه سياسات النظام التونسي آنذاك، وقد أشعل انتحار البوعزيزي فتيل الثورة التونسية وثورات الربيع العربية التي تلتها.

لا تختلف كثيراً الظروف التي دفعت البوعزيزي إلى الانهيار عن الظروف المفروضة على البدون، فالبوعزيزي كان يعاني من البطالة التي أدّت به إلى بيع الخضروات على قارعة الطريق، كما أنّه شعر بالإحباط عندما صادرت الشرطة بضاعته وبالإهانة عندما صفعته شرطية، وهذا الواقع يعيشه الكثير من البدون منذ عقود منالزمن، ولكن الفرق بين البوعزيزي والبدون أن البوعزيزي لم يتعرض للحرمان من جنسية وطنه الذي ولد وعاش فيه، ولم يتم تسميته "مقيم بصورة غير قانونية"، ولم يتم قمعه عن التعبير والمطالبة بانتمائه لوطنه بالمدرعات والقوات المدججة بالأسلحة وخراطيم المياه الحارة وقنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص المطّاطي، ولم يتم ابتزازه ممن ينصّب نفسه وليّا لأمره رغماً عنه ويجبره على الخضوع لممارساته التعسفية غير القانونية وغير الأخلاقية كالتزوير الرسمي الذي يُمارس على البدون بغرض الإمعان في تغريبهم في وطنهم وتحويلهم إلى مقيمين قابلين للإبعاد - بعدما تم تحويلهم من سكّان أصليين لشبه الجزيرة العربية وبادية الكويت تحديداً قبل نشأة الحياة المدنية واستقلال الدولة- إلى أشخاص عديمي جنسية في الدولة المدنية ثم إلى مقيمين بصورة غير قانونية في وطنهم.

ولقد أثبتت الأدلة وشهادات الشهود على ملابسات حالات انتحار البدون الأخيرة أن الدوافع الاقتصادية والاجتماعية لم تكن سوى أعراض لمشكلة جوهرية وهي سياسة الدولة تجاه البدون، وقد اشتركت الأدلة التي تضمنتها كلمات ضحايا البدون الذين أقدموا على الانتحار- أمثال عايد مدعث وعادل العصمي وبدر مرسال وطلال الخليفي-  سواء عن طريق شنق أنفسهم أو إشعال النار بأجسادهم. حيث عانى هؤلاء الضحايا جميعهم من سياسات الحرمان والتهميش والتضييق ومنهجية المماطلة والتسويف التي انتهجها البعض في السلطة في تعاملها معقضية البدون دون اكتراث لآثار الوقت والانتظار اللامحدود على الحالة النفسية والاجتماعية لأعضاء هذه الفئة والقرارات التي يتخذونها في ظل الخيارات الصعبة التي تركتها لهم سياسة الدولة- وأحد تلك الخيارات هو الانتحار- كوسيلة للتعبير عن الغضب والخلاص من ألم المعاناة المستمرة والمصير المجهول.

إن ظاهرة انتحار البدون- مع شديد الأسف- لن تتوقف ما دامت هذه الفئة الاجتماعية تتعرض لنفس الظروف الاجتماعية والاقتصادية القاهرة، وما داموا يُعاملون بنفس سياسة الابتزاز والقمع، بل ربما ستزداد هذه الظاهرة؛ لأن الانتحار- بحسب رأي التاريخ والعلوم الاجتماعية- كوسيلة احتجاج أو مقاومة له تأثير متعدّ يُطلق عليه ""suicide copycat effect، حيث يتحوّل فيه الانتحار إلى وسيلة تعبير وأسلوب احتجاج ومقاومة، كما يتحوّل فيه كل منتحر إلى أيقونة ومصدرإلهام للذين يعانون من نفس الظروف التي دفعته إلى الانتحار.

بغض النظر عن التبعات الإنسانية المترتبة على انتحار أبناء فئة البدون في الكويت نتيجة الضغط والقمع السياسي المفروض عليهم وما ينتج عنه من ضغوطات اجتماعية ونفسية تؤدي إلى هذه الظاهرة، فلننتبه إلى التبعات السياسية الخطيرة المرتبطة بقضية البدون من منظور القانون الدولي الذي يعتبر إلحاق الأذى الجسدي أو النفسي الجسيم بأعضاء فئة اجتماعية معينة، أو إخضاع تلك الفئة بشكل متعمد لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً، على أنها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان لا تسقط بالتقادم ويُعاقب جميع المشتركين فيها عن طريق الفعل أو التآمر أو التحريض أو حتى مجرد المحاولة، سواء كان المتورطون بتلك الممارسات حكّاماً دستوريين أو موظفين عامين أو أفراد، وذلك بنص الاتفاقيات الدولية التي وقّعتها وصادقت على تطبيقها دولة الكويت.

الخلاصة

تتلخص دوافع ظاهرة الانتحار بين أوساط فئة عديمي الجنسية (البدون) في الكويت في الظروف المعيشية البائسة المفروضة على هذه الفئة الاجتماعية التي تعيش الحرمان من الحقوق السياسية والمدنية الأساسية كحق الهوية والسكن والرعاية الاجتماعية وحرية التعبير عن الرأي منذ استقلال الدولة عام 1961، وتتطلب هذه الظاهرة معالجة جذرية للعوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المسببة لها، ويجب أن تتم هذه المعالجة بصورة عاجلة وفق جدول زمني واضح يراعي احتياجات الناس اليومية التي لا تحتمل التأجيل، مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية إشراك أصحاب القضية (البدون) أنفسهم في صياغة الحل الذي سوف يحدد مصيرهم، وذلك حفاظاً على كرامتهم وحقّهم بأن تكون لهم إرادة حرّة ورأي محترم فيما يخص شؤون حياتهم ومستقبلهم.

 

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد