dark_mode
  • السبت ٢٠ / أبريل / ٢٠٢٤
رثاء، خطوتان عن الموت.. عمر عن السعودية – هديل

رثاء، خطوتان عن الموت.. عمر عن السعودية – هديل

‏"خطوتان عن الموت.. عمر عن السعودية"
‏هذا ما تقوله أمي حينما تشتاق إلى خالتي وخطوات السفر بعيدة... صعبة.. مستحيلة..
‏كلها بحكم السلطة.. بسيطرة الأوراق.. بفعل الأقوى..
‏تقول أمي: الموت أقرب من طريق السعودية.. الأوراق تسافر ونحن محرومون من السفر… نشهق الحسرات.. نذرف لعنات الوطن.. نقبر الأشواق!
‏أمي تقول: إن الغربة تهرع بك نحو الجنون.. تسلب العقل!
‏خالتي طيبة.. يؤلمها قلبها ولا تشكو.. تجمع من على وجهها اليُتم وتمضي.. خالتي رحيمة تسمع بخطواتها جراحها.. لكنها دوما ما تحبو حتى لا نشعر بخطوات غربتها..  خالتي مصابة بداء البعد.. بقسوة اليتم على عقلها!
‏أقول يتم منذ أن اختفى وجه جدتي واضمحلت ملامحها من حياتنا، صارت خطوات أمي وخالتي الوسطى بعيدة عن خالتي التي وجدت لها في الغربة وطنًا بحكم السلطة -سعودية بقلب يشفق على الكويت- قريبة بالشعور.. بعيدة بالأوراق!
‏رحلت خالتي عن الكويت منذ أكثر من ١٥ سنة مجبرة على ترك الكويت وعائلتها للذهاب مع زوجها، حيث تزوجت من رجل سعودي مقيم بالكويت لكن بعد صعوبة الاستقرار بالكويت ارتحل عنها للعودة إلى أرض وطنه، بعد أن صارت الحياة هنا مسمومة.. في حين أن خالتي رحيمة ما غابت عن حياتنا ولا أفراحنا ولا أحزاننا، بل كانت تسارع بالحضور، ولا تغيب أكثر من شهرين، إلا أنها هي وحدها من كانت تصارع الوحدة والغربة.. وحيدة دائماً!
‏تهرول أمي حتى تصل إلى باب خالتي في منزلهم ولا تجد في البيت القديم إلا وجه خالاتي مطبوعًا على زوايا البيت.. تقول: أركض حتى أشتم رائحتهم في كل الزوايا.. أصطدم بالزوايا وألتف على الذكريات، هكذا أصب الحزن.. أعثر على دموعهم.. صرخاتهم.. وتجمع اليتم في أرجاء الشوارع.. في المكان!
‏قلوبنا مقبورة.. ورقة كانت تفصل ثلاث أخوات من رحم واحد عن بعضهن.. عن أفراحهن.. عن أحزانهن.. عن أحضانهن!
‏أمي، الأخت الصغرى، تمسح من على قلبها ذكريات العمر.. وترى في أختيها العمر..  اليوم بعد أن دُفنت خالتي ما زال صوتها يدوّي في الكويت.. في شوارعها التي لفظتها بعيداً عنها!
‏اليوم الورقة ذاتها حرمتهن من الوقوف على قبرها والمسح على وجهها.. جثم الفراق وحل الوداع يا حبيبة العمر، ونحن لا نمسح على رأسك كما كنتِ تمسحين الحزن من قلوبنا.. في حضورك.
كالطفلة خالتي لا تجرح أحدًا، كالملاك لا تؤذي.. جُرحت من الفراق.. جُرحت حينما فُرض عليها أن تكون وحيدة في كل المناسبات ولا ورقة تثبت وجود عائلة.. أبحث الآن عن ورقة تستطيع توثيق كل هذه المعاناة.. أبحث عن حبر يسلط الضوء على قلوب تنازع حياتها في المقابر.. وتدفن محرومة حتى من المقابر!
‏في فمي لظى.. في وجهي موت.. في رأسي دموع.. 
‏في يدي ستار، أحاول طمس الضوء عن حياتي الظلماء.. لعلي أمنع الموت من رؤية أحبابي المحرومين من حق الحياة.
‏خالتي الوسطى بكبريائها الذي طعنته الحياة تجمع أمي كما تجمع البكاء في وجهها وتعاود ترميم العائلة بعد تكدس الموت في وجوهنا، تغرق هي وأمي بالبكاء، تلعن الأوراق.. نكره الأوراق.... نبصق على الأوراق.
‏أكتب الآن شيئًا يشبه الرثاء لروح خالتي الطيبة التي حُرمنا من رؤية وجهها الطفولي الرحيم لآخر مرة.. لتكن كل الأشياء ملامة بعد اليوم يا حبيبة العمر، لتشهد المقابر أن البدون لا يملك حق التنقل، لا يملك حق طبع قبلة على جبين ميت..
‏يمتلك جوازًا رماديًا غير صالح للسفر ينتهي متى ما شاءت مؤسسات البلاد.. لا يُستخرج إلا بصعوبة وشروط، لذلك أمي صدقت حينما قالت: خطوتان عن الموت.. عمر عن السعودية!

‏لن أسلَم من بدونيتي أبداً.. ولن أغفر لها.. ولن أُشفى من ثقل جراحها.

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد