dark_mode
  • السبت ٢٧ / أبريل / ٢٠٢٤
في عشوائية الحرمان: أن تكون مبدعاً وعديم جنسية - ابتهال عبد العزيز الخطيب

في عشوائية الحرمان: أن تكون مبدعاً وعديم جنسية - ابتهال عبد العزيز الخطيب

ماذا يعني أن تكون مثقفاً بدون، عديم جنسية؟ ماذا يعني أن تتفجر أوعية عقلك خارج إطار جمجمة الاعتياد، خارج حدود الهموم اليومية، لتحمِّلك هماً فكرياً ونفسياً من النوعية القدرية الوجودية فوق همومك المادية والمعنوية اليومية؟ ماذا يعني أن تكون طفلاً بعقل ناضج، أو بالغاً بعقل صاخب، أو أباً مكلف بأعباء الحياة اليومية بعقل ملح بأفكار خارج حدود هذه الأعباء وبقوة جذب تأخذك من واجباتها أو أماً بعقل طنان رنان يرافقها ويضبب رؤيتها في كل خطوة من خطوات يومها المليء العسير، أو طالبة أو طالب بعقل يتقافز حماساً وقلب يدق شجناً على مقعد دراسة مهزوز مهدد، ماذا يعني أن تكون أياً من هؤلاء دون فرصة حقيقية لأن تلتفت لهذا العقل أو تعطي فرصة لدقات هذا القلب، دون هواء المساحة وماء الوقت المتاح اللذين يحتاجهما هذا العقل ليتجاوب وإلحاحاته دون أن يصيبه الحرمان بالجنون؟ 

هي حالة تعذيب يومي أن تكون عديم جنسية تحيا في مجتمع، وهو تقريباً كل مجتمع مدني على سطح الأرض اليوم، يضع كل ثقله الهوياتي في هذه الجنسية، يقيِّم أفراده من خلالها ويسيِّر كل أموره اللوجستية على أساسها، يحمي فقط أفراده الذين يملكونها، ويوفر الاحتياجات الإنسانية الرئيسية فقط لهؤلاء الذين يحملون دفترها. فكيف إذا كنت تفتقد لهذا الدفتر في عالم اليوم المرتبط تماماً به وفي ذات الوقت محمل بعقل يشتاق للمعرفة ويتطلع للتعلم، عقل يلح عليك ويساؤلك ويستجوب وضعك الإنساني الوجودي ويتوق لمساحة طبيعية يستطيع من خلالها أن ينطلق، تماماً كما تنطلق عقول تجاوره المكان والزمان، قدراتها أقل لكن حظوظها أكبر؟ كيف تستطيع أن تحيا يومك غير ملتفت لهذا الأزيز المستمر في رأسك كأنه صوت مروحة تعلقت، لا هي قادرة على التهوية ولا هي متمكنة من التوقف؟

كلنا ننشغل بتفاصيل حياتنا اليومية، كلنا ننسى، لفترات متباعدة ومتقاربة، إلحاح رغبات الأفكار والتي، حين يتوفر الوقت في واحدة من هدآت اليوم، عادة ما نستطيع أن نرويها أو على أقل تقدير نتعامل معها. كلنا، ممن حالفتنا ضربة الحظ الجينية، لدينا هدنات يومية ومقدرات معقولة تفتح لأفكارنا الأبواب، فنستطيع حين تأخذنا جلالة الأفكار والآمال والتطلعات لربما أن نحاول، أن نستغل فرصة: ندرج أنفسنا في جامعة، نسجل في دورة، نسافر للخارج في كورس مقتطع، نشتري كتاباً، نشاهد أفلاماً ونستمتع بمواد أخرى مرئية ومسموعة، نسعف عقولنا بمتطلبات إلحاحاتها، نقدم لها هواء وماء الفرصة والأداة والمكان والزمان المتوافرين لتأخذ عقولنا نصيبها من الارتواء. فكيف لو لم نكن نستطيع؟ كيف لو أن عقولنا الضاجة في رؤوسنا تلك ما كانت لتجد الفرصة، ما كانت لتتحصل على مقعد جامعي أو دورة مقتطعة أو حتى مجرد كتاب مشتهى أو لربما مجرد وقت في اليوم، وقت لا نسعى فيه كطواحين لا تتوقف فقط لكسب لقمة عيش بسيطة؟

وماذا لو توفرت كل هذه المتطلبات اللوجستية والزمنية؟ ماذا لو كانت الضمادات موجودة لكن الجرح يفوقها اتساعاً وغوراً؟ ماذا لو كانت العذابات معزَّزة في الواقع بفرصة العلم والاطلاع والفهم والتي كلها ستبث المشهد المؤلم بالحجم الكبير وبوضوح صارخ حول غرابة الحياة وظلمها وظلماتها وعبثية فرصها والكوميدية السوداء لقدرياتها؟ ماذا لو كانت الفرصة هي مصدر العذاب، والمعرفة والإدراك والثقافة هي كلها السكاكين التي تخترق الروح بتلك الحقيقة التي يا ليتها، لربما يتمنى صاحبها، بقيت طي غيابها والجهل بها؟ ماذا لو أن هذا العقل مميز القدرات والذي حصل على فرصة العلم والمعرفة والإبداع تحول إلى لعنة حقيقية على صاحبه الذي يرى ضراوة الظلم وعبثية الأقدار وخبث المقدرات ولا يستطيع تجاهها شيئاً، لا يستطيع أن يجهلها، لا يستطيع أن يتجاهلها، لا يستطيع أن يمنطقها أو يفهمها أو يبررها أو حتى أن يتوقف عن التفكير بها؟ يفوتنا كثيراً أن نفكر في هذا النوع من العذاب الصاخب، عذاب يشخب في الصدر كأنه سعال حاد لا ينتهي، عذاب حرمان العقل الذي لا يرويه شيء، لا يعوض فرصته شيء، لا يسكن آلامه شيء. فالجوع والعطش والألم والرغبة لربما تَسْكُن كلها بالانشغال، ببعض المسكنات الوقتية، أو حتى بالنوم، أما آلام العقل والروح، فتلك يضاعفها الانشغال، يزيد من حدتها أي مسكن وقتي لها، وينتظرها النوم، ينتظرها ليفجرها كلها في الأحلام والكوابيس. 

في مقال لعبد الوهاب السليمان نُشر على منشور في 2019، يقول الكاتب عن ناصر الظفيري، الأديب والروائي البدون الكويتي أن "عندما ولد ناصر الظفيري في عام 1960 ﻷسرة بسيطة، لم يعلم أن أسئلة كبرى ستولد معه، أوسع من محيط مدينته والعالم، أسئلة حملها معه إلى كندا واجتهد في البحث عن تفسير لها." كانت مسيرة ناصر مفعمة بالأسئلة ومزروعة شوكاً في كل خطوة يخطوها للإجابة عنها، ليتوفى ناصر في مدينة أوتاوا الكندية لاجئاً غريباً تحت الثلج الأبيض الذي لم يكن في يوم جزء من هويته ولا قادر مطلقاً على تقديم أي إجابات له. يقول ناصر رحمه الله في روايته الصهد أن "أقسى الألم هو الذي لا تجد أحدا تقتسمه معه أو يقتسمه معك." لقد كان ناصر مثقلاً بآلام وأفكار وإمكانيات وإلحاحات لم تجد، سوى اليسير منها، منفذاً لها، لم تجد شريكاً مهتماً بها أو مقدِّراً لها، لتدفن مع ناصر في بياض ثلجي سيحفظها في ضمائرنا ما دمنا ودامت حيواتنا.

تقول سعدية المفرح، الشاعرة والأديبة البدون الكويتية في كتابها سين: "أحيانًا أشعر أنني مجرد حلم، وأن أحدًا ما في هذا الوجود يسعى لتحقيقي، وأنّه لم ينْجح حتى الآن." وماذا يحدث للأحلام التي أبداً لا تجد لها أرضاً تقف عليها، للآمال التي لا تجد مرسىً لمراكبها، للآلام التي تبقى تنزف حتى في أيام الفرح القليلة؟ لربما تحصلت سعدية على فرصة ولربما كان لناصر منفذ، ولربما هذه الفرصة وهذا المنفذ هما ما يضاعفان العذاب والألم، ذلك أن على هذا المبدع وتلك الخلاّقة أن يتعاملا مع اكتشافهما لقدراتهما وكل تداعيات هذا الاكتشاف، كل ما تثقلهما به قدراتهما من وعي يتعذبان به ومن إبداع لا يجد كله كل ما يستحق. لا حرمان في هذه الحياة يعادل حرمان الروح، حرمانها من السؤال ومن إجابته ومن أدوات التعامل معه ومن وقت للالتفات للعقل الذي يشكله ومن الفرصة والقدرة والورقة والقلم ودار النشر والتمويل والاهتمام والتقدير، ومن كل ما يحتاجه المثقف والأديب والشاعر والكاتب والفنان والمبدع بكل حالاته لكي يكون، لكي يعبر، حتى لا تنفجر روحه بإمكانياته الحبيسة.

ولقد كتبت فيرجينيا وولف مقالاً معبراً بعنوان "أخت شكسبير" تتخيل فيه أن ماذا لو كان لشكسبير أختأً لها ذات إمكانيات شكسبير وقدراته الإبداعية لكنها، كونها أنثى، لم تتحصل أبداً على فرصه التعليمية أو مساحاته الوقتية للقراءة والتعلم أو فرصه الإبداعية في المجتمع أو حتى على اهتمام أهله به وتشجيعهم له؟ أخت شكسبير أنثى، غير ذات هوية إنسانية أو ثقافية في مجتمع زمنها، فرصها قليلة واستغلال المجتمع لها عنيف وتكالب الظروف عليها حارق، فإلى أين أخذها عقلها؟ وماذا فعلت بها إمكانياتها الإبداعية؟ وأي نار أضرمها شوقها للعلم والمعرفة والثقافة والتعبير في أحشاء نفسها؟ مقال وولف، بخلاف أنه مقال نسوي يتعامل مع حرمان المرأة، هو في الواقع مقال إنساني يحكي عن أشد أنواع الحرمان قسوة على النفس الإنسانية وما يمكن أن يفعله هكذا حرمان بهكذا إنسان. يا خسارة كل الفنانين والكتاب والروائيين والشعراء والمسرحيين والممثلين والمخرجين والنحاتين والعلماء والأطباء والمهندسين والمحامين والمعلمين والممرضين والأساتذة والفلاسفة ولربما حتى رواد الفضاء الذين كانوا ليكونوا وما كانوا، والسبب قسوة قدرية عشوائية لا يد لهم فيها، وكل يد لنا في السكوت عنها. 

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد