dark_mode
  • الجمعة ٢٦ / أبريل / ٢٠٢٤
لمن أشكو بدونيّتي – فهد الخليل

لمن أشكو بدونيّتي – فهد الخليل

عام 1991، إبان الحملة الجوية الأمريكية لتحرير الكويت، ولد هادي في مدينة الجهراء، الابن البكر لوالديه، الفرحة غير المكتملة، "الحرب، المتناقضات أو الأنصاف". 

كانت تعيش أسرة هادي في بيت صغير جداً، لا أعرف كيف استطاع هذا البيت الصمود وكيف شدّ نفسه على التحمل، جدران مهلهلة وأبواب صدئة ونوافذ يتخللها الهواء، ربما البيت كان "ناي". 

هادي ذو البشرة البيضاء والملامح البائسة التي رسمت على تشكيلة وجههِ، ترى هل كان هادي يسمع دوي الانفجارات وهو في بطن أمه ما جعل ملامحه تشبه معركة دموية؟ أسئلة كثيرة يجدر طرحها عند رؤية وجه هادي. 

كانت أسرة هادي صغيرة ومكونة من أبوين وجدة. استُقبل أول حفيد للعائلة بخوف وريبة، كان ذلك بسبب الأوضاع الأمنية الخطرة، خوف من الحاضر وخوف من المستقبل وأعين مغرورقة بالارتياب والانتظار، هي لحظة الخلاص من مأزق عصيب، الغزو والجوع والشتات والبدونيّة! 

هادي الذي لم يكن يشبه اسمه أبداً حيث أنّ بكاءه اللامتناهي كان يعبر ربما عن حالة احتجاج أبدية، رفض قطعي للواقع وربما جيناته "البدونيّة" التي كانت تجري بأوردته ما حمله على البكاء اليومي، تصرخ جدته التي كانت تحبه كثيراً "اعطوه" حليباً لا تجعلوه يبكي كثيراً، كانت دائما ما تكرر جدة هادي في كل مرة يبكي فيها: إن هذا الطفل حزين، نبوءة الجدة لم تكن محض صدفة، ربما هي لعنة الأجداد "الشمال" الحزين، البائس، المقاتل، الذي عاش ليحصد أكبر عدد من الخيبات والهزائم. 

بعد تحرير الكويت والفرحة العارمة في أرجاء المدن الكويتية ورجوع الكثير من الأسرى ومرور الأيام، لم يتغير شيء على أسرة هادي التي كانت تقتات على ما يحصده والد هادي من نقود من خلال الدكان الذي يعمل به 12 ساعة باليوم. خيبة جديدة تضاف إلى دفتر الأسرة، والد هادي الذي كان متعباً دائما يأمل في كل يوم أن تنتهي معاناته بأن يكون كويتيا، ربما لم يعد يفكر بذلك الآن، ليس لشيء بل لوقف المزيد من الصدمات النفسية التي تعرض لها ذلك المتأمل المسكين. 

كبر هادي، تغير وجهه، صار أكثر بؤساً ربما، ولكن في داخله شيء يخبره: هناك شيء سيتغير ذات يوم، هل كان يتحدى نبوءة جدته أما هي أضغاث أحلام؟ 

حياة هادي الرتيبة داخل أسرته التي لم تكبر كثيراً ولم تتنفس الأوكسجين بشكل جيد، لم تكن المشكلة بالهواء أو حتى في الرئة، السبب وراء ذلك أن الحياة كانت تحدق بهم من بعيد أو ربما هم كانوا خارجها، اختناق هذه الأسرة لم يعنِ لأحد شيئا، غير أن حولهم الكثير من المختنقين، كان يطاردهم شبح الهوية، يؤذيهم مجتمع بارد، عنصرية، وحالة من التيه، لا أدري إن كانت تلك حياة أو موت بطيء! 

أربع سنوات في المرحلة الابتدائية هي أربعة فصول من الأرق كون أن هادي الطفل لم يستطع والده أن يقله بسيارته إلى مدرسته واختار له باص أبي نهار الرجل الضخم صاحب البشرة الصفراء وعينين جاحظتين وشعر أجعد، ورغم ملامح أبي نهار القاسية، إلا أنه كان يعاملهم بطيبة مفرطة، وكان ودودا مع كل الطلبة في الباص، كان هادي أول من يستيقظ في الصباح وآخر من يصل بيته في النهار، هذه ظروف كل من يركبون باص المدرسة وتكون منازلهم بعيدة جداً. 

دخول هادي إلى المرحلة المتوسطة لم يكن سوى نذير شؤم وأن الوطن سيف يوخز صدره كل يوم، بعدما سمع والده يصرخ إلى متى نحن بدون؟ 

ربما تكون صداقة هادي بغريب الذي تعرّف إليه في المرحلة المتوسطة هي المواساة الوحيدة التي كانت تخفف عليه حالة القلق  واختناق القصبة. 

غريب الذي كان في خده ندبة تشبه خريطة "الوطن"، كان قدر هادي أنه كلما نظر في وجه غريب تذكر "الوطن"، غريب لطيف لكن ندبته موجعة. 

"الطفولة والمراهقة كانتا سيان في حياة هادي ففي المرحلتين لم يعدُ كونه هامش في كتاب منسي". 

بعد مرور 12 عاما: 

لحظة تخرج هادي من الثانوية، في آخر لقاء له بمدرسته، وقف أمام سور المدرسة وقال: لا أود مغادرة مدرستي، ماذا سينتظرني خارج ذلك السور، هل هي الحياة والعمل أم العودة إلى التاريخ القديم وسماع المزيد من الانفجارات، ذاكرة هادي لا تهدأ، ربما مازال عالقا في ذلك الزمان أو هي حالة تشظٍّ لم يقدر على تجاوزها لغاية الآن. 

بعد عودة هادي وفرحة أسرته بهِ، كان شيئا استثنائيا، تخرّج هادي من الثانوية بالنسبة لأسرة لم يكن من بين أفرادها متعلم واحد، وقد لاحظ هادي تلك الفرحة بعين جدته التي كانت تنتظر منه الكثير، حيث طلبت منه الاقتراب، احتضنته وهمست بأذنه: "يمه هادي أنت فرحتنا"، لم يعرف هادي كيف سيحقق تلك الفرحة لجدته الطيبة. 

أكثر ما كان يشغل هادي بعد تخرجه هو أن يعمل بعد تكدس الإيجارات على عائلته البسيطة وبقاء والده دون عمل، حاول هادي كثيراً أن يجد عمل ولكن كان الشارع أقرب شيء للخروج من ذلك المشهد البائس الذي تكرر عليه كثيراً وهو صراخ والده: "من وين أجيب لكم، أسرق"، الشارع والصيف الحارق والرصيف كانوا أصدقاء هادي بعد تخرجه من الثانوية، حمل لواء الأسرة الفقيرة لم يكن هيّنا على صدر هادي ولكن ربما هو "القدر". 

حاول هادي أن يكتسب مهارات وأن يعلم نفسه محاولاً إيجاد مخرج جديد من خلال القراءة والكتب وهو في بسطته مقابل الجامعة التي كانت "حلمه" الكبير، ظرفية الزمان والمكان أوقعت هادي في عدم وجود مكان مناسب ليعمل به إلا أمام الجامعة، هل هي لعنة جديدة في حياة هادي أم دفعة إلى الأمام لكي يقبل كل تلك التحديات المرهقة لذهنه. 

عدم قدرة هادي على دخول الجامعة أرهقه كثيراً، لكن ماذا عساه أن يفعل؟ لم يكن ذنب أسرته، لم يكن والده يريد ذلك، السماء لا تريد ذلك أيضاً، كانت مشيئة الوطن ألّا يدخل هادي الجامعة ويبقى في الشارع يبيع ليسدد الايجارات المتراكمة حتى تبقى أسرته في المنزل. 

في 2011، بعد أول لحظة تاريخية، دخل هادي بسيارته القديمة إلى شارع النجاشي في تيماء، ركن سيارته جانباً، وقف ينظر إلى مشهد صادم لم يره في حياته، شباب وصحافة وكبار بالسن وعجائز وأطفال، الجميع يردد "الموت ولا المذلة"،  ابتسم هادي في لحظة طيران له وهو يهرول إلى الساحة، مردداً معهم ذات الهتاف، ولادة جديدة لهادي، أو نضال جديد من أجل أسرته ونفسه وأحلامه الكبيرة وقضيته المنسية التي كبرت كثيراً في تلك اللحظة داخل روحه المتعبة. 

اُعتقل هادي، ذهبوا به إلى زنزانة انفرادية طيلة 20 يوما ومعه آخرون لا يعرفهم، تعلم هادي التدخين في تلك الزنزانة، حيث كان هناك شاب بالقرب من زنزانته يحمل معه علبة سجائر ويوصل له السجائر عن طريق خيط رفيع يخرجه من نافذة باب الزنزانة ويلتقطها هادي كما لو أنه يلتقط حبيبته، تلك اللحظات المجنونة كانت مسلّية، كاسرة للوحدة المجنونة وظلام الزنزانة ووحشة المصير. 

كان أحد المعتقلين، وهو طلال الذي على ما يبدو أنه محبوب من جميع المعتقلين الذين كانوا مع هادي، ينشد كل صباح بعد استيقاظهم وتناولهم وجبة الإفطار، في محاولة منه لإعادة الروح في نفوس من هم بالمعتقل والإصرار على بث روح الأمل من جديد: 
سوف نبقى هنا .. كي يزول الألم 
سوف نحيا هنا .. سوف يحلو النغم 

وهم يرددون خلفه بصوت عالٍ، إلى أن يأتي أحد أفراد الأمن غاضبا ويصرخ: اصمتوا، اصمتوا، لا أريد أن اسمع صوتاً، كان يريد لصوت الوطن أن يصمت، نعم نحن الوطن الذي كان ينشد، نحن الوطن الذي لا يموت، كانت تلك الحالة التي يعيشها هادي في زنزانته الضيقة. 

خرج هادي من المعتقل بعد 20 يوما، حاول جاهداً أن ينسى جدران الزنزانة والسهر وعدد الساعات الضائعة وأن يعيش دون أعباء كما لو أنه حرٌّ إلى الأبد، خرج هادي وظلت روحه معتقلة، لم يهدأ على الاطلاق، ظلّ يحاول مرات عديدة أن يرسم طريقا جديدا، شارعا جديدا، حياة جديدة، إلّا أنه كان دائما يرجع إلى ذات الشارع، ثم يصرخ: 
"لمن أشكو بدونيّتي ". 

يبدو أن كل شيء كان يتضخم بوجه هادي، الحب، الحزن، البؤس، الوحدة، الفراغ، عدا أحلامه فهي تصغر وتضيق بعينه كل يوم. 

بقيَ هادي في صراع ينتظر لحظة ميلاد جديدة، ربما ينتظر وطنا يحبه، وشمسا دافئة، وليلا ينام فيه بسكون. 

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد