dark_mode
  • الجمعة ٢٦ / أبريل / ٢٠٢٤
العيدية الأولى...رسالة اعتذار إلى أبي! - جهاد محمد

العيدية الأولى...رسالة اعتذار إلى أبي! - جهاد محمد

توجعك أحلامنا الصغيرة، فتعبد الشوارع قيامًا ليل نهار، لم نكن أطفالك، كنا شريعتك والعقيدة، خمسةً كأصابع يمناك تقبض علينا بكفك الأخرى كي لا ينخرنا الجوع، فتعود بعدها لتتمرس خلف مستقبلنا، سمعتك تقول لأمي ذات ليلة: سأرتاح عندما يكبرون! وعندما كبرنا صغرت هذه البلاد علينا، أدرنا وجوهنا للغربة، صلّت علينا دموعك وحشةً، دون أن نشفى من متلازمة الطفولة تلك، تُراني لمَ أرتكب ذنب وجعك ذاك كل ليلة عيد؟ أجلس أنتظرك صباحًا فوق عتبة الباب، أتى الغرباء كلهم يا أبي... ووحدك لم تأتِ! أتصل بك ولا وصال للقلوب بهاتفٍ: "ينعاد عليك بالراحة"، أقولها، كأنني أستغفر كل تعبك بنا.

أبي هو الوطن... وما كل هذه الدول سوى خرائط لا أكثر، لا أعلم لماذا يغزوني انكسارك ذاك كل عيد، رغم طفولتي إلا أنني أجلس متقوقعًا بمكاني عندما رأيت قريبنا يدس بجيبك الأموال، نظرت إلي أولًا قبل أن تهرب عيناك مني إلى الأرض، عصرت بالدينار الذي أملك ماءً لوجهي ووجهك، ورحت أعطيه لابن ذلك الرجل عيدية له: هذه بتلك يا أبي.

علمتنا هذه البلاد التسول، نهيمُ رُحلًا عنها نشحذ أوطنا بغربتنا، بلا وعي بأننا نهرب من فقر إلى فقر، كأن لا غنىً لنا سوى وجهك.

تأتيني أخبار الموت الذي يعصف بكم، أذكر فيما قلته لي مسبقًا أن للكويت "حوبة"، فماذا عن "علي"! ذاك الذي شتل الحرمان جسده في سماء الوطن، فلم يدفن بل صار غيمة دموع فوق رأس أمه، "علي" الذي كبر مصيبةً قبل سنين عمره، أتخيل أباه يقول لأمه مثل ما قلته عنا فيما مضى، لكن الطفل لم يكبر ولم يرتَح والداه!

أبي، أما زال أبناء هذه البلاد يسكنون خيامًا بالصحراء؟ كأجدادهم أولئك الذين فضّلوا باديتهم على استيطان المدينة، أرخِ مسمعك ناحيتي، دعني أحدثك عما خبأه الإعلام عن "يعقوب" ذلك الاسم الذي رددته في دعائك برحيلنا: "يا راد يوسف إلى يعقوب.." مات الفتى معلقًا فوق شجرة في صحراء الكويت، بينما أخوة "يوسف" راحوا يدرسون حالة التصحر في أرض الوطن عندما وجدوا أن شجرة موت "يعقوب" كانت وحيدة!

دعنا نعيش بالبارحة، نكفر بانتحارات اليوم، ونؤمن أن غدًا ليس سوى مزحة، فكم كذبوا علينا بقولهم إن أحدًا لا يموت جوعًا في هذا الوطن، وما نحن سوى ضحايا مجاعة سنين الوعود الجائفة، نأكل... لكننا نموت حرمانًا من أن نعيش بحقوق كاملة، يجثمون فوق صدورنا كل ليلة ويتبجحون صباحًا بأن الحلم مسموح بهذا الوطن! فتعال لنرى كيف حلم "علي" بلعبة قبل أن يغمض عيناه للأبد، نمسح من ذاكرتنا رسالة "زايد" الأخيرة لابنه، نحلم بأن "بدر" ما زال يجلس على الأرجوحة تحمله رياح البلاد ذهابًا وإيابًا، وبأن "عايد" لم يتأخر هذا المساء كي لا تقلق أمه التي تنتظره منذ موته الأول وحتى الآن! وأن "يعقوب" لم يبع عمره ليشتري الراحة الأبدية، فهنا الإنسان يأتي آخرًا يا أبي، يسبقه في سلم الأولويات إصلاح أسفلت الشوارع! في بلاد كرّمت الحصى المرصوفة على شعبها.

أبي، وكم سكبنا من أعمارنا في إناء هذا الوطن، لكننا رحنا نزهر في الغربة، تغرف لك أمي الصبر بكل مائدة: سيعودون، تقولها ويمضي عمرٌ من العمر دون لقياك، فنحن الذين كُتب علينا ألّا يملأ غيابنا هذا الفراغ، دون أن نقوى أن نعود أطفالًا حولك، تكون بها ابتسامتنا منجلًا لحصاد كل ذاك التعب، وهذا العيد يا أبي كأنه الأول، أرتّب ثيابي بلهفة إبهارك بأناقتي، أتخيل أن غدًا هو الأمس، أنتظر أن أسابق أشقائي بالجري نحوك عند لحظة تتخطى فيها قدماك عتبة الباب، كأن حضنك هو كل العيد يا أبي، نفعل ذلك في بقية الأيام أيضًا، عن إلهام طفولة بأنك ها قد عدت دون أن تبتلعك شوارع الوطن!.

أبي... يومًا ما عندما تضيق هذه المقبرة على أمواتها سيسبقنا التراب في سلم الأولويات أيضًا، سيصدر المسؤول إياه هذا القرار: "يدفن المواطنون منفردين والبدون في قبور جماعية"، فتعال نسبقهم بضحكة، كأنهم لم يفعلوا ذلك بنا في تيماء والصليبية بعد أن أصدر مشايخهم فتوى إجازة البناء فوق "مقابر" البدون وليست مناطقهم.

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد