dark_mode
  • الجمعة ٢٦ / أبريل / ٢٠٢٤
معضلة البدون العظمى.. حزمة أسئلة.. وصفر إجابات - جاسم الشمري

معضلة البدون العظمى.. حزمة أسئلة.. وصفر إجابات - جاسم الشمري

السؤال الأهم: وماذا بعد.. يا قومي، أليس فيكم رجل رشيد؟!

التدبر والتفكر سمة الخلق، أو لنقل ربما هي غاية الخلق، والتدبر والتفكر يكمن تحديدًا في طرح الأسئلة بهدف استيفاء إجابات عنها تدفع بالسائل إلى التصديق والاعتقاد بماهية المسؤول عنه.

وما يصدق على الكليات لا يمكن إنكاره على الجزئيات ومن ذلك ما أجد أنه إخفاق حقيقي من الدولة في الإجابة عن السؤال الحاضر دومًا في كل خطابات مسؤوليها حول الدفاع عن الهوية الوطنية.. والمتمثل في: ما هي الهوية الوطنية التي يدافع عنها هؤلاء؟ ولأننا لم نعتد التدبر والتفكر فإن كثيرًا منا يغفل عما درسناه عن فكرة نشأة الكويت قبل أكثر من ثلاثة قرون والمتمحور حول التفاف مجاميع سكانية جاءت مهاجرة من جهات متعددة حول بعضها البعض هربًا من الجوع في جهة وفرارًا من معادلة الاستقواء والاستضعاف في جهة أخرى فاختارت التعاضد لدفع هذه الأوبئة عنها.

هذه الفكرة التي تأصلت على مدى القرون التالية لنشأة الدولة المدينة أو المدينة الدولة أزعم أنها كانت حاضرة في ذهن المشرع الذي تصدى لاستصدار قانون الجنسية في العام 1959 ورسم فيه حدود اكتساب المواطنة وحددها في منافذ واضحة قبل أن تطالها يد العبث بعد ذلك لتشوهها.. وربما ما يهمنا هنا أمران اثنان؛ أولهما تحديد التواجد قبل 1920 للحصول على المواطنة الأصلية وتحديد 14 عاما فقط قبل صدور القانون لاكتساب المواطنة بالتجنيس.

التدبر هنا يكمن في أن لا بُعدَ زمانيًا بين صدور القانون وافتراض أن من أقام في البلاد قبل هذه التواريخ قد اكتسب صفة مميزة تمكنه من أن يكون من أهل البلاد إلا في إطار ما رسمته هذه الفكرة ابتداءً من أن القادمين إلى هذه الأرض ارتضوا بأن يكونوا ضمن إطار رفض الجوع ورفض معادلة الاستقواء والاستضعاف التي قام عليها المجتمع حتى وإن كان ذلك نظريًا، بمعنى أن سياسة الاستقواء ستظل تحكم العلاقات البشرية غير أنها تأخذ مضامين وأشكال وأنماط مختلفة من مجتمع إلى آخر وهي في الكويت أقل هشاشة من غيرها ومرشحة دوما للتداخل الاجتماعي، وكان ذلك موطن قوة في هذا المجتمع دون غيره، فما كان مرفوضًا أو ملفوظًا قبل عقدٍ من الزمان لم يعد كذلك اليوم وما يكونه اليوم ليس هو ما سنجده بعد عقدٍ من الزمان.

وأجد أن هذه المقدمة ضرورة للدخول إلى متاهة الأسئلة التي خلفها الجهاز المركزي في مسار ملف البدون وأنجبت معضلة كبرى ملخصها صفر إجابات:

وأول هذه الأسئلة المسكوت عنها ما يتعلق بمسؤولية الدولة مباشرة عن بقاء آلاف من البشر دون إقامة شرعية حينما اختارت السلطة إغلاق لجان منح الجنسية منتصف ستينيات القرن الماضي؟.. لا أحد حتى اللحظة يجيب عن هذا السؤال المحوري المتمثل في وجود آلاف من الأفراد دون هوية محددة بل وتزداد الغرابة حين تعمد هذه السلطة إلى احتواء هؤلاء في هيكلها الإداري ومنحهم وظائف في أجهزة حساسة دون أن يسأل من يفترض بهم التدبر: هل يجوز أن تضفي السلطة شرعية على الجيل الأول أو الثاني من أبناء هذه الفئة ثم تتنكر لجيلهم الثالث أو الرابع؟.. ولعل السؤال الذي ظل حاضرًا على مدى الستين عامًا الماضية إصرار السلطة دوما على أنها تعمل لإيجاد حل لملف البدون ولتظل الصحف تجتر عناوين عريضة: عن حل البدون بعد ثلاثة أشهر وستة أشهر وغيرها طيلة هذه العقود الستة ومنذ أن اختارت إغلاق لجان الجنسية.

في بداية عقد الثمانينات تنبهت المملكة العربية السعودية إلى وجود آلاف من الأفراد لا يحملون هويتها الوطنية وكلهم يدعي أنه من باديتها وخاصة في المنطقة الشمالية منها ورغم أن جزءًا من منظومتها الإدارية قائم على الولاء القبلي في منح الهوية فإنها لم تصم أذنيها أو تغلق عينيها للبحث عن مخرج لهذه المعضلة فكانت أن أضفت على هؤلاء لقب نازح من دول الجوار دون أن تلزمهم استخراج هوية من هذه الدول ومنحتهم بطاقات تعريفية مكنت كثيرين من الدراسة والعمل طيلة فترة الثمانينيات والتسعينيات ومع بدء الألفية الثالثة بدأت بمنحهم الجنسية السعودية بعد أن رأت أنهم باتوا مواطنين مستحقين لنيل تبعيتها القانونية.

أضرب هذا المثل لحسن التعامل مع فارق الظروف والإمكانات، فالكويت الدولة وليس المدينة هي موطن كثيرين ممن ينتمون إلى قبائل محددة كانت تذرع هذه الصحراء شتاءً وربيعًا ثم ترتحل صيفًا إلى مراعٍ أكثر اخضرارًا في الشمال لتعود مع الشتاء التالي إلى موطنها الذي غادرته.. وهذا ما لم يسترع انتباه أي من الذين تصدوا لمعالجة ملف البدون وليظل السؤال: هل المنتمون للقبائل الذين كانوا يرعون في صحراء الكويت لا يستحقون مواطنتها رغم أن الدولة عملت على توطينهم فيها قبل أكثر من سبعين عامًا مضت؟

وهنا يحضرني استهجان كاتب يبدو أنه زار صحراء الكويت القاحلة صيفًا ووجدها جرداء فأطلق سؤاله الاستنكاري: هل نحن مراعي أستراليا ليدعي هؤلاء البدون أنهم من بادية الكويت؟.. نعم يا سيدي، قبل مئة عام وقبل ثمانين عامًا وقبل ستين عامًا وقبل أن يستوطن التصحر القلوب قبل الأرض كانت هذه البراري موطن القبائل شتاءً وربيعًا وهو السؤال المسكوت عنه لأن ليس من مصلحة البعض الإجابة عن السبب في استيراد مجاميع قبلية من مناطق جغرافية بعيدة والادعاء أنهم هم من كانوا يستوطنون هذه البادية.

قبل أكثر من ربع قرن ولدت اللجنة المركزية لمعالجة أوضاع البدون والتي تحولت إلى اللجنة التنفيذية ثم الجهاز المركزي لمعالجة أوضاع المقيمين بصورة غير قانونية، وطوال هذه المدة ليس من إجابة واضحة على سؤال واضح ومحدد مفاده: وماذا بعد؟؟.. السؤال الأكثر إلحاحًا حينما يعمد موظفو الجهاز إلى تحديد جنسية لأحد أفراد البدون اعتمادًا على وجود جنسية محددة لأحد أفراد عائلته.. وماذا بعد؟؟ لا حكيم يسأل إن كان هذا الفرد اكتسب الجنسية حديثًا أو قديمًا.. مقدار الصلة التي تربطه بهذا البدون والأهم إمكانية أن يعدل البدون وضعه القانوني بناء على هذا الكشف الخارق للجهاز بمعزل عن الوضع القانوني والإداري للدول المحيطة التي لم تعد جنسيتها متاحة من جهة أو من جهة إمكانية اندماج أبناء الكويت البدون بهذه المجتمعات.. وهو مدخل لعلماء الاجتماع لدراسة الحالات المتزايدة للهجرة إلى أوروبا وأميركا وأستراليا من قبل أبناء البدون الذين اختاروا الانتساب إلى دول المحيط حيث لم يستطيعوا التأقلم مع هذه المجتمعات معيشيًا أو اجتماعيًا رغم أن كثيرين منهم كانوا ميسوري الحال حينما غادروا الكويت، وهو ما يستدعي إلى أذهاننا مرة أخرى الفكرة التي قام عليها المجتمع الكويتي والمتمثلة في منح الأمان للمنتسبين إليه بغض النظر عن الحالة المعيشية التي يتكبدها.

ولعل السؤال الذي يلح دوما على كل المشتغلين بهذا الملف خارج سياق الدائرة الحكومية: في حال نسبت إلى السواد الأعظم جنسيات دول المحيط.. فهل سيلغي ذلك وجود البدون؟ وهل سيكون ذلك كفيلا بتعديل أوضاعهم القانونية قسرًا؟ وماذا لو رفض هؤلاء هذا الواقع الإلزامي؟ ما هي خيارات السلطة لإجبارهم عليه؟ حزمة أسئلة، صفر إجابات كما أرى...

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد