dark_mode
  • الثلاثاء ٢٣ / أبريل / ٢٠٢٤
حقران يقطع الأوطان – أحمد السويط

حقران يقطع الأوطان – أحمد السويط


نشرت صحيفة الإندبندنت الإيرلندية في 15 فبراير المنصرم خبراً بعنوان "طالب لجوء أفغاني بلا مأوى يطلب أمرًا قضائيًا من المحكمة العليا لإجبار الدولة على توفير السكن له"، وجاء الخبر كما يبدو من عنوانه في سياق لجوء إنسان إلى السلطة القضائية لإيجاد حل لمشكلته بعد أن فشلت مؤسسات الدولة المعنية في تأمين مأوى آمن له، مما أدى إلى تشرده وتعرضه للاعتداء اللفظي والجسدي والسرقة والإساءة العنصرية أثناء نومه في الشوارع.

وعلى الرغم من عدم تصريح الكاتب بأي تحيز، إلا أن لبعض العبارات التي اختارها في صياغة الخبر آثاراً خطيرة في تأليب الرأي العام ضد اللاجىء الأفغاني على أسس عنصرية بحتة، وذلك من خلال المفردات التي تحدد وضعه القانوني وجنسيتة وتصوّره على أنه يسعى إلى "إجبار الدولة". ولكن هل تقتصر آثار العبارات التي اختارها الكاتب على التوجيه العنصري ضد فئة اجتماعية معينة فقط، أم أن لها تداعيات أخرى تعمّ المجتمع بأكمله؟

من المفيد لفهم دلالات الخطاب العنصري وآثاره أن نستعرض عينة من مدى انتشاره وردود الأفعال التي يثيرها لا سيما على منصات التواصل الاجتماعية. بلغت المشاهدات التي تلقاها الخبر على منصة تويتر أكثر من 161 ألف مشاهدة، وجاءت حجج عامة الناس على شكل تعليقات تهكمية منها "ماذا عن زنزانة سجن.. ورحلة إلى المكان الذي ينتمي إليه؟"، وأخرى تشكيكية تفترض أن طالب اللجوء لم يكن ليتمكن من الوصول إلى المحكمة العليا لولا أنه "تحايل على النظام"، وأنه "إذا كان يستطيع تحمل تكاليف الذهاب إلى المحكمة العليا، فبالتأكيد يمكنه العثور على سكن". ومن اللافت من بين التعليقات رد العضو السابق في المجلس البلدي (السيد كيث ريدموند) بأن الحكومة الإيرلندية "ليس عليها أي التزام قانوني" لتوفير السكن للمواطنين.

كان رد السيد ريدموند موجّها لشخصٍ علّق ساخراً "لا تستطيع حكومة أيرلندا الوفاء بالتزاماتها لإسكان شعبها"، وكأن المستشار السابق كان ينبّهه إلى أن في القوانين الإيرلندية الحالية ما يلزم الدولة بأن تقدم للاجئين ما لا تقدمه للمواطنين، وهذا التعليق بالتحديد يكشف عن مفارقة من مفارقات العقل العنصري الذي يستخدم حقيقة أن الدولة غير ملزمة بتوفير السكن للمواطنين كحجة يستنكر من خلالها وجود قانون يلزم الدولة بتوفير السكن لإنسان مغترب.

هذه النماذج التي تربط استحقاقات الإنسان بوضعه القانوني وجنسيته (لا بإنسانيته) تبرهن على أن "مأساة العنصرية" تكمن في أنها لا تقوم على أدلة واستنتاجات تجريبية بل على مسلمات متوارثة كتلك التي تصوّر أن هناك أعراق معينة من البشر بحد ذاتها أقل شأناً واستحقاقاً من غيرها — على حد تعبير أحد أبرز مناهضي العنصرية في التاريخ الحديث (مارتن لوثر كنج) الذي تنبأ في حفل تكريمه بدرجة الدكتوراه في القانون المدني بأن العالم "لن يرتقي إلى مستوى نضجه الأخلاقي أو السياسي أو حتى الاجتماعي الكامل حتى يتم القضاء على العنصرية تمامًا".

التمييز العنصري كما تعرفه الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري (المادة الأولى)  يشمل "أي تمييز أو إقصاء أو تقييد أو تفضيل يقوم علي أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الاثني يكون غرضه أو تأثيره تعطيل أو عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية أو التمتع بها أو ممارستها، علي قدم المساواة، في الميدان السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو في أي ميدان آخر من ميادين الحياة العامة".

الخطير في الخطاب العنصري أنه لا يقتصر على التأصيل والتعزيز الثقافي والإداري للتمييز بين البشر وحرمان البعض منهم من حقوقهم الإنسانية على أساس العرق أو الجنس أو الوضع القانوني، بل إنه يمتد إلى إشعال الفتن والحروب على أرض الواقع الاجتماعي، وهذا ما يثبته تاريخ الإبادات الجماعية والتطهير العرقي، وهجمات العنف والقتل التي يتعرض لها اللاجئين والمهاجرين والمهمشين حول العالم بشكل يومي.  

عندما بدأت تداعيات الخطاب العنصري في الإعلام الأوروبي تتجلى على هيئة ممارسات ومشاريع حكومية تعسفية وهجمات مجموعات عنصرية متطرفة على الأماكن التي يسكنها طالبو اللجوء، هب الآلاف إلى احتجاجات شعبية مناهضة للعنصرية كان آخرها المسيرات الحاشدة التي انطلقت يوم السبت الماضي في شوارع لندن وجلاسكو وكاردف ضد "مشروع قانون الهجرة غير الشرعية" الذي قابله المحتجون بهتافات ولافتات كتب على بعضها: "عليكم بأصحاب الملايين بدلا من الذين في القوارب الصغيرة".

طرق التعبير عن العنصرية ومناهضتها كثيرة. كان بإمكان كاتب الخبر الذي بدأنا بالحديث عنه أن يختار عنواناً أقل قبحاً، ولكنه اختار أن يصّور لجوء مغترب إلى القضاء لإنصافه على أنه خصومة للدولة، معرضاً بذلك حقوق المغتربين (والمواطنين على حدٍ سواء) إلى مزيد من الانتهاكات. من ناحية أخرى كان بإمكان الذين خرجوا في المسيرات المناصرة للمغتربين في إيرلندا والمملكة المتحدة أن يتجاهلوا الخطاب العنصري، ولكنهم اختاروا أن يتحملو مسؤولياتهم الإنسانية والمجتمعية. لماذا لم يصمتوا أو يكتفوا بالحديث فقط بينما يقضون عطلة نهاية الأسبوع الماضي في منازلهم الدافئة؟ هل لأنهم لا يعرفون أن "الحقران يقطع المصران"؟ أم لأنهم مدركين تماماً حقيقة أن هناك حقران يقطع الأوطان؟

* الصورة في المقال من صحيفة الجارديان البريطانية.

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد