dark_mode
  • الخميس ٢٥ / أبريل / ٢٠٢٤
منّاع الخير – أحمد السويط

منّاع الخير – أحمد السويط

منّاع الخير شخصية لا يكاد يخلو منها مجتمع من المجتمعات. من أول المصادر التي سلطت الضوء عليها القرآنُ الكريم، وذلك في موضع الوعيد: "أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ﴿24﴾ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ﴿25﴾. وعلى الرغم من أن ممارسات هذه الشخصية تشكّل ظاهرة تهدد سبل الخير والقيم الإنسانية في أي مجتمع من المجتمعات، إلّا أن التفاسير التي تناولتها كالطبري وابن كثير والطباطبائي في الميزان لم تتجاوز الأوصاف اللغوية لصفاتها الأساسية كالامتناع المتعمّد عن أداء حقوق معينة إلى أهلها، أو ممانعة حصول عامة الناس على حقوق بشكل عام.

 ما دفعني للبحث في ظاهرة ’منّاع الخير‘، والتفكير في قضية البدون في إطارها، كان حوارٌ جانبي في اجتماع مع منظمة للعمل الخيري في مدينة "Wycombe" في المملكة المتحدة. كان الهدف من الاجتماع مناقشة فكرة منتدى ثقافي عربي-غربي يتصدى للتحديات التي يواجهها المتطوعون في الأعمال الخيرية في المملكة المتحدة، كالممارسات التي تؤدي إلى قطع سبيل المعروف، وتلك التي تقوم على منع عامة الناس من حقوقهم الأساسية لتمكين فئات اجتماعية معينة من الهيمنة على الموارد، وبالتالي المزيد من الرفاهية والثراء الفاحش.

قطع سبيل المعروف

 تضمن حوارنا الحديث عما هو أشبه بالعرف لدى العاملين والمستثمرين في إيجار العقارات الذين لا يؤجرون لمن لا دخل شهري له سوى الإعانة الاجتماعية التي تصرفها الدولة للعاجزين عن العمل وأصحاب الدخول المنخفضة. وفي مناقشة أسباب هذه الظاهرة وتداعياتها توقفنا عند مفهوم ’قطع سبيل المعروف‘ الذي لم يسعفني الوقت لترجمته بأفضل من عبارة "cutting the line of benevolence"، كما حاولت توضيحه بمثال ضربته لأحد أعضاء المنظمة يدعى مايكل: "تخيل أن تتعرض لعمليات نصب متكررة أثناء تطوعك للأعمال الخيرية، فتكتشف بأن من بين الذين يقصدونك على أنهم محتاجون هم أشخاص غير محتاجين في الحقيقة وإنما يستغبونك ويستغلون نواياك الحسنة. على الأرجح أنك سوف تتوقف عن مساعدة الناس، أو أنك سوف تشكّك في كل من يقصدك من أجل المساعدة".

من التراث العربي: غدر شرحبيل بالزير سالم

لا شك أن الغدر من الأفعال التي تهدد سبل الخير والقيم الإنسانية منذ فجر التاريخ. ولعل من أقدم المصادر التي تجسدها في التراث العربي قصة شرحبيل ابن مرة ابن شيبان البكري مع ابن عمه عديّ ابن ربيعة التغلبي، الملقب بـ"الزير سالم" و كذلك "أبو ليلى المهلهل"، وهو من أبرز الشعراء والأبطال الأسطوريين في ثقافة شبه الجزيرة العربية في زمن الجاهلية، وخال الشاعر العربي المشهور امرؤ القيس. تشير المصادر التاريخية إلى أنه، أثناء حرب البسوس بين قبيلتي تغلب ابن وائل وبني شيبان، تظاهر شرحبيل بأنه منشقٌ عن البكريين لأنه كان يراهم على باطل وأنه مستجير بـالزير سالم، فأجاره الزير. وعلى الرغم من تشكك الزير بنوايا شرحبيل إلّا أنه أبى أن يكشّر عن أنيابه بوجه دخيله ما لم يبد منه الشر. ولكن شرحبيل كان بالفعل قد بيّت نية الغدر، فاستغل هدوء الليل وظلمته ليقوم بسرقة حصان الزير الذي ورثه عن أخيه (كليب) ويعود إلى أهله البكريين.

عندما علم والد شرحبيل (مرّة ابن ذهل) بفعلة ولده نهره وقال له: "لا تحكي هذه القصةَ لأحدٍ، لأن لا تموتَ النخوةُ في نفوسِ العرب، فلا يُجيرُ أحدٌ ملهوفاً بعدها". يبدو أن والد شرحبيل كان يخشى من انتشار فعلة ولده لما ما كان سيترتب عليها من فضيحة وعار، ولكن سيرة ابن ذهل كرجل حكيم محب لفعل الخير ترجح أن أكثر ما كان يخشاه هو قطع سبيل المعروف بين الناس وبالتالي موت القيم الإنسانية.

دواعي المبادرة لإنقاذ المجتمع

لشدة برودة الجو؛ عرض علي مايكل بعد الاجتماع أن يوصلني إلى محطة القطار التي تبعد حوالي 30 دقيقة سيراً على الأقدام. ركبت معه في سيارته الصغيرة والمتواضعة جداً، وفي الطريق كنت أفكر في دوافع هذا الإنسان للتطوع في الأعمال الخيرية: قلت لنفسي لعله الفراغ، حيث أنه يبدو في السبعينيات من العمر، ولكن بدلاً من الاستمرار في التكهنات قمت باستنطاقه بشكل غير مباشر حيث سألته عما إذا كان ما زال يعمل في المجال الطبي— حيث أشار أثناء الاجتماع أنه درس الطب في نفس الجامعة التي أدرس فيها حالياً— فسرد علي قصته منذ بداية عمله كطبيب في نظام الصحة الوطني (NHS) عام 1971، وكمستشار في مشاريع طبية داخل وخارج المملكة المتحدة لأكثر من عقدين من الزمن. هذه الخبرة الطويلة في القطاع الصحي شجعتني أن أسأله عن رأيه في الجدل القائم حول أزمة نظام الصحة الوطني ومآل هذه الأزمة، فأجاب بأن أحد أهم أسباب تقاعده عن وظيفته عام 2004 وتفرغه للأعمال التطوعية هو عدم وجود إصلاحات حقيقية في المنظومة الصحية العامة.

أزمات الخدمات العامة: فشل أم إفشال؟

يرى مايكل بأن استمرار أزمة نظام الصحة الوطني في المملكة المتحدة يكمن بشكل أساسي فيما يمكن اعتباره فشلاً في فهم جوهر المشكلة، حيث لا يوجد من بين أصحاب القرار من هو قادم من رحم الطبقة العاملة ومطّلع فعلياً على التحديات العملية التي يواجهها العاملين في القطاع الطبي في حياتهم اليومية، ولعل هذا ما يجعل الخطاب السياسي بشأن تطوير المنظومة الصحية أشبه ما يكون منفصلاً عن الواقع، ناهيك عن افتقاره إلى الإحساس بالآخرين واستشعار معاناتهم، حيث لا يبدو أن لدى السياسيين حلولاً سوى اقتراح فرض رسوم إضافية على الخدمات الصحية أكثر من سيعاني بسببها هم الفئات الضعيفة والمهمشة من المجتمع. هكذا انفصال عن الواقع وانعدام المسؤولية تجاه المجتمع ككل تعكسهما تصريحات مثل تلك التي أطلقها هذا الأسبوع وزير الصحة البريطاني السابق ساجد جافيد، وقبله رئيس الوزراء البريطاني الحالي (ريشي سوناك) الذي يدّعي دور المنقذ القادر على إصلاح أزمة نظام الصحة الوطني بينما كشفت الصحافة الشعبية أنه شخصياً يتلقى الرعاية الصحية في عيادة خاصة تكلفة الاستشارة الواحدة فيها 250 جنية إسترليني.

 من السذاجة بمكان أن نحصر أسباب أزمة كأزمة النظام الصحي الوطني في المملكة المتحدة في الفشل في فهم جوهر المشكلة. ذلك لأن نشأة الأزمة من الأساس على الرغم من وفرة الموارد البشرية والمادية دليل على وجود تعمّد لإفشال المنظومة الصحية العامة لمصلحة فئات معينة من المجتمع، وعلى حساب العامة من المجتمع. ولا يستبعد أن يكون ذلك للدفع أكثر باتجاه خصخصة القطاع الطبي، وبالتالي إجبار عامة الناس على اللجوء إلى شراء الخدمات الصحية من المستثمرين في تسليع هذا القطاع وبيع خدماته لمن هم بحاجة إليها، بدلاً من تمكينهم من الحصول عليها كحقوق إنسانية أساسية. وما التناقض المعتاد بين ادعاءات السياسيين ومواقفهم وممارساتهم العملية إلّا دليلاً آخر على أن أزمات الخدمات العامة لا بد أن يكون بها ’لحمة ضب‘. ولكن من سيستفيد من أمر كإفشال متعمد للصحة العامة في المجتمع؟

دوافع منّاع الخير

لا يبدو واضحاً كيف يقنع أمثال جافيد وسوناك أنفسهم بالمشاركة عمداً في حرمان الناس من حقوقهم في الرعاية الصحية، أو غيرها من الحقوق الأساسية، سوى أنهم قد استعبدوا أنفسهم للأنانية والطمع في مزيد من الرفاهية ولو على حساب أضعف فئات المجتمع. ولكن كيف لإنسان ’متعلّم‘ أن يقدّم الرفاهية المفسدة والزائلة على أن يعيش سعيدا مرتاح الضمير لأنه صانع لسعادة أكبر عدد من الناس؟ كيف لمن يدّعي فهم الاقتصاد أن يبيع موارداً مستدامة كراحة الضمير وحسن السمعة والخلود في التاريخ بأثمان بخسة كمنصب زائل أو أموال زائدة عن حاجته حتما سيموت ويتركها خلفه؟ ماذا كان مصير شرحبيل بن مرة؟ هل هنأ بحصان الزير الذي سرقه؟ وكيف يذكره التاريخ الآن؟ وكيف يعيش في ذاكرة التاريخ اليوم الزير الذي تمسّك بمبدأ إجارة المستجير؟ وفي وقتنا الحالي، هل سترت المناصب والأموال الطائلة عورات الوزير السابق جافيد ورئيس الوزراء الثري سوناك عن توبيخ المجتمع بشكل يومي؟

ربما عدم قدرة مايكل على مواجهة ظاهرة ’منّاع الخير‘ من موضعه كطبيب يرى بعينه كيف يتألم الناس بسبب تأخير المواعيد وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية هو ما دفعه إلى الانسحاب من نظام الصحة الوطني، لشعوره بالعجز عن ممارسة دوره كإنسان حي الضمير هناك، فقرر أن يمارس هذا الدور عن طريق العمل التطوعي بالتنسيق مع شبكته الاجتماعية لتمكين المحتاجين من الحصول على الخدمات الصحية التي يحتاجونها وفق إمكانياتهم أو حتى بالمجان. وبالإضافة إلى توفير الخدمات الصحية للمحتاجين، توسع مايكل في عمله التطوعي للسعي إلى توفير مساكن مناسبة للمحتاجين في ظل تعسف ملّاك العقارات في شروط التأجير وربما مشاركة جهات حكومية مسؤولة عن الرعاية السكنية في "تطفيش" الناس من نظام الرعاية السكنية الحكومي لمصلحة تجاّر العقار.

دور العمل التطوعي

تقوم المنظمة التي يعمل بها مايكل وزملائه بتوفير مساكن مخفضة التكلفة للأفراد والأسر الذين يواجهون خطر التشرّد بسبب تعسف ملّاك العقارات وتقاعس الحكومة عن مسؤولياتها تجاه الفئات المهمشة من المجتمع. يكون ذلك بالتنسيق مع بعض ملاك العقار والشركات العقارية الذين لديهم شيء من المسؤولية المجتمعية، وتُقدّم هذه الخدمة التطوعية بشكل مؤقت لمدة لا تقل عن شهرين ولا تتجاوز ستة أشهر، والسبب الرئيسي لكونها خدمة مؤقته هو محدودية الإمكانات المتاحة، علاوة على سعي المتطوعين إلى تمكين أكبر عدد من الأفراد أو الأسر من التقاط أنفاسهم والوقوف على قدميهم ثم إتاحة الفرصة لغيرهم من ’الملهوفين‘.

لا تخلو الجهود التطوعية التي يقوم بها مايكل وزملائه وشبكاتهم الاجتماعية من التعقيد والمخاطر. على المستوى المادي؛ فهم يقدمون للمحتاجين مساكن بأجرة مخفضة لا تتجاوز قيمة بدل الإيجار الذي توفره الحكومة، وهذا يجعلهم عرضة لغضب ملّاك العقار الذين تقوم مصالحهم على رفع أسعار العقارات والإيجارات. وعلى مستوى الوقت— الذي هو في الحقيقة أندر من المال—؛ فإن الخدمات التطوعية التي يقدمونها تتضمن مساعدة الأفراد والأسر (خصوصاً اللاجئين الجدد) في التسجيل في المدارس، والنظام الصحي، والبحث عن وظيفة مناسبة، ودورات التدريب المجانية في اللغة والمهارات الفنية إن استدعت الحاجة. هكذا يمارس مايكل وزملائه مسؤولياتهم المجتمعية. هكذا يمارسون إنسانيتهم.

منع الآخرين منع للذات

من مبادئ التطوّر في الموارد البشرية أنه كلما حصل الموظف الواقع في مرتبة أدنى في سلم المناصب على ميزة استحق من هو أعلى منه رتبة على ميزات جديدة. وهكذا على مستوى الحياة الاجتماعية. ما يجب أن يفهمه المعارضون لحقوق المهمشين من الناس أن الباحث عن الرفاهية يجب أن يكون من أول المدافعين عن حقوق المهمشين. عندما يضمن المواطن مثلاً حصول غير المواطنين على جميع حقوقهم الإنسانية الأساسية بالتالي تصبح جميع حقوق المواطنين الأساسية من البديهيات. أمّا من يتطوع لتقمّص دور’منّاع الخير‘ فيحارب حقوق الناس الأساسية فهذا على الأرجح أنه يستكثر على نفسه أن يكون إنساناً له حقوق. وإلا فما تفسير من يحتج على فكرة حصول إنسان على هوية يمارس من خلالها حياته الطبيعية في نظام الدولة المدنية، أو وثيقة سفر يحتاجها للدراسة أو العلاج أو للسعي في أرض الله الواسعة بعد أن ضاقت به السبل في وطنه الأم؟

يقول الصديق مايكل أنا طبيب وأعرف معنى أن يكون الإنسان معتلا، وأسوأ اعتلال هو الاعتلال الفكري: أن يكون الفرد مريضا بالحسد أو الكراهية أو العنصرية أو التعجرف على الآخرين. هذه الأمراض يصعب علاجها، ولكننا نبذل قصارى جهدنا لتحجيم أصحابها ومكافحة آثارهم على المجتمع. قد يجد الأغنياء من هؤلاء من يحاول تلميع ساحاتهم مقابل المال وغيره من المصالح المادية. ولكن أن يتطوع التاريخ ليثني على المواقف والجهود التي يبذلها مايكل وزملائه، دون مقابل، ودون حتى أن يعلموا بذلك، فهذا هو الخلود الذي لا تشتريه كل أموال الدنيا.

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد