dark_mode
  • الثلاثاء ٢٣ / أبريل / ٢٠٢٤
العنف الهيكلي و

العنف الهيكلي و"ظاهرة" انتحار البدون - حمد تركي الحميدان و محمد جمال اليوسف

أقدم طفل من البدون يبلغ من العمر 11 عامًا على الانتحار إثر شنق نفسه بسلك كهربائي داخل غرفته في الصليبية قبل عدة أيام. 

يتعرض البدون في الكويت إلى ما يسمى بالعنف الهيكلي (structural violence) إثر فقدانهم لأهم مقومات الاحتياجات البشرية نتيجة الظروف السياسية والاجتماعية التي يعيشونها، والتي تؤدي إلى عواقب وخيمة كالوفاة المبكرة والإعاقة غير الضرورية والانتحار وارتكاب الجرائم. يصف عالم الاجتماع ومؤسس دراسات النزاع والسلام النرويجي، يوهان غالتونغ، العنف الهيكلي على أنه شكل من أشكال العنف غير المباشر(indirect violence) الذي تتضرر منه فئة من فئات المجتمع عن طريق سياسات تمارسها الهياكل الاجتماعية والمؤسسات في دولة ما- مثل التمييز والعنصرية- تلحق بهم الضرر وتمنعهم من تلبية احتياجاتهم الأساسية.


البدون ونظرية الاحتياجات البشرية

تفيد نظرية الاحتياجات البشرية- التي تتفاوت وتتقاطع حسب المنظر والسياق- بأن الإنسان بحاجة إلى مجموعة من الاحتياجات الأساسية في حياته، منها المادية وغير المادية، مثل الأمن والاعتراف والمشاركة والهوية. يفتقد معظم البدون هذه الاحتياجات في حياتهم اليومية وهو ما يشكل عائقا أمنيًا واجتماعيًا في حياتهم اليومية.

أولا، يفتقد البدون إلى حاجة "الأمن"، وهي إحدى الاحتياجات الأساسية لنمو الإنسان وتطوره مثل الاستقرار والتحرر من الخوف والقلق سواء على المستوى الشخصي أو المجتمعي. يُنظر للجهة المعنية بتوفير الأمن الحكومة على أنها المهدد الأول لأمن البدون نتيجة السياسات التي تُتخذ تجاههم عن طريق الجهاز المركزي لشؤون المقيمين بصورة غير قانونية (الجهة الحكومية المعنية بشؤونهم). وقد ذكر تقرير لهيومن رايتس ووتش أن البدون يعيشون خارج المجتمع العادي، في عرضة للمخاطر ودون "تدابير حماية". إن وضع قيود قد تحرم البدون بشكل مؤسسي من بعض حقوقهم، مثل رفض منحهم "الوثائق الضرورية ومنها شهادات الميلاد والزواج والوفاة، وكذلك إتاحة ارتياد المدارس الحكومية وفرص التوظيف القانونية والرعاية الصحية"، يعد من أهم المظاهر المادية للعنف الهيكلي التي ذكرها غالتونغ.

ثانيا، إن "الاعتراف" حاجة أساسية في التنمية البشرية للأشخاص البالغين، كما تذكر منظمة الصحة العالمية في تقرير لها. فالإنسان بحاجة إلى احترام ذاته وتشجيعه ومكافأته من قبل المجتمع بقدر احتياجه إلى الحوائج المادية. إن حرمان هذه الفئة من حق المواطنة وتصنيفهم على أنهم "غير محددي الجنسية" يهدد هذه الحاجة الأساسية، ناهيك عن التحديات التي يواجهونها في استخراج الهويات والوثائق الشخصية، لاسيما البطاقات الأمنية (البطاقات المدنية الخاصة بهم)، والتي أحيانا تتطلب تنازلات منهم قد تصل إلى الاعتراف المُكره بعدم أحقيتهم بالتجنيس. رغم مرارة العيش بلا هوية ثبوتية، يرفض عدد كبير من البدون استخراج البطاقات الأمنية رافضين المميزات المادية، أملًا باعتراف الدولة بهم عن طريق منح المستحق منهم الجنسية. مرة أخرى، للإنسان احتياجات أساسية غير مادية.

ثالثا، فيما يتعلق بالهوية، وهي الشعور بالذات فيما يتعلق بعلاقة الإنسان بالعالم الخارجي كما يعرفها منظرو الاحتياجات البشرية، فإن إقصاء فئة من فئات المجتمع وعزلها قد يؤدي إلى حرمانها من الشعور الحقيقي بالانتماء إلى وطن ما. وفقا لمنظري الاحتياجات البشرية، تشمل احتياجات الهوية احتياجات قد تكون مفتقدة عند البدون مثل الاستقلالية، الانتماء، الجذور، والحب (الزواج والعلاقات). على سبيل المثال، إذا نظرنا إلى الاستقلالية، يخضع البدون إلى سلطة الجهاز المركزي وسياساته الابتزازية بنظرهم، والتي قد تقوض وكالتهم وتهدد حريتهم، مثل التلويح بالحرمان من تجديد بطاقاتهم الأمنية. تقول منظمة العفو الدولية في تقرير لها عن حالة البدون، كانت هناك الكثير من الحالات التي يدخل بها البدون إلى الجهاز المركزي لإتمام معاملة ما ويطلب منهم التوقيع على وثائق تنص على أن الموقّع أو عائلته من حملة الجنسيات الأخرى. وأحيانا، يجبرون على توقيع مستندات لا يسمح لهم بقراءة محتواها. أما عن الجذور والانتماء، غالبا ما يتم اتهام البدون ب "الذين أخفوا جوازتهم الحقيقية" أو "أتوا طمعا بثروات البلد" وهذا قد يؤدي إلى ما يسمى بالعنف الثقافي الذي يمارس ضدهم. ولا ننسى بأن تسمية هذه الفئة بالبدون -أي "المجهول" أو "الفاقد"- بحد ذاتها دليلٌ على أزمة الهوية وحالة العزلة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يعيشونها.

 وأخيرا، يحتاج الإنسان إلى المشاركة في الحياة العامة -سواء السياسية أو الاقتصادية- والتي تتطلب بعض العوامل المهمة مثل السلطة والتأثير (power and influence). يحرم البدون من التصويت والمشاركة الفعالة في الشأن العام وقد يمتد الأمر إلى حتى حرمانهم من النشاط السياسي على مواقع التواصل الاجتماعي ومنعهم من الاعتصامات السلمية التي يكفلها الدستور. إذًا، يمكننا القول أنه ليس لديهم أي تأثير ملحوظ على المشهد السياسي. ولذلك، لا تحظى قضايا البدون باهتمام حقيقي وجاد من قبل نواب مجلس الأمة وغالبًا ما تتكلل مساعي النواب بالفشل.

أما فيما يتعلق بالمشاركة الاقتصادية، يلجأ الكثير من البدون إلى التجارة غير الشرعية مثل المزادات والأسواق السوداء وقد تودي بهم الظروف إلى التجارة بالمحرمات؛ نتيجة لوجود قوانين تمنع بعضهم من التوظيف القانوني والتجارة الحرة. قد لا تبدو المشاركة الاقتصادية بذات الأهمية، ولكن حرمان البدون من الفرص الاقتصادية قد خلق حاجزًا أمام مشاركتهم وانخراطهم في المجتمع.

ولا ننسى العزلة الاجتماعية والجسدية للبدون والتي تمت عن طريق تخطيط عمراني أدى إلى تخصيص مناطق بعيدة عن المدن الرئيسية ومراكز النفوذ ليسكنوا في مناطق ذات خدمات متردية في منازل "عشيش" غير آمنة. نتيجة إلى ذلك، أصبحت مناطق البدون (تيماء والصليبية) مثل "معسكر أغامبين"، حيث يتم تقليص الوجود البشري إلى الحياة العارية وتصبح حالة الاستثناء هي القاعدة، ويصير النظام الطبيعي (القانون) معلقا بحكم الأمر الواقع. وهذا ما أكده تقرير هيومان رايتس ووتش حين ذكر بأن "البدون يعيشون خارج إطار المجتمع العادي. ولا ننسى أن ورقة الجنسية هي بمثابة شرط أساسي للمشاركة في المجتمع (اقتصاديا وسياسيا) وللهروب من  هذا "المعسكر". ولذلك، نصت مفوضية حقوق الإنسان على أن من حق كل إنسان الحصول على بيت آمن يؤويه ومجتمع محلي ينتمي إليه ويعيش فيه بسلام وكرامة.

 


العواقب: مظاهر العنف الداخلي والخارجي والعنف الثقافي

ما هي آثار عدم تلبية الاحتياجات البشرية؟ إن فقدان هذه الاحتياجات الأساسية يؤدي إلى العنف غير المباشر والعنف الثقافي. وفقًا لجون بورتون، أحد أهم منظري فض النزاعات، فإن معظم الصراعات الاجتماعية المدمرة كانت تلك المتعلقة بمنع الناس من احتياجاتهم الأساسية.

يحدث العنف غير المباشر (أو الهيكلي) عندما تحرم بشكل منهجي فئة من فئات المجتمع من رفاهيتها وحق تقرير مصيرها. وبعدها، يتحول هذا العنف الى عنف ثقافي حينما يتم تأييده من قبل عوام الناس، مثل تأييد الخطاب المعادي لهذه الفئة بمبررات آيديولوجية أو دينية أو ثقافية، مثل "الحفاظ على الهوية الوطنية" أو التشكيك بولائهم ونشر صورة نمطية سلبية عنهم، لتبرير أو إضفاء الشرعية مع ممارسات العنف الهيكلي بحقهم.

إن حرمان الناس من احتياجاتهم الأساسية يضعهم في ظروف معيشية قاسية تجعلهم أكثر عرضة للانحراف والهلاك، مثل العنف الداخلي والخارجي (internal and external violence). لطالما كانت هناك عراقيل على البدون عند بحثهم عن عمل في القطاعين العام والأهلي، وقد تصل إلى التضييق على بعضهم حتى في تجارتهم الخاصة. إن هذه التحديات الاقتصادية التي يواجهونها تؤدي إلى ارتفاع نسبة الجرائم، بالأخص الجرائم ذات الدوافع الاقتصادية مثل السرقات والتجارة بالمخدرات. ولذلك، لا غرابة إذا أدّت هذه الأوضاع الصعبة إلى ارتفاع بمعدل الجرائم عند البدون مقارنة بالفئات الأخرى، وبهذا يكون هذا الارتفاع مظهرا من المظاهر الخارجية للعنف. 

أما على المستوى الداخلي، إن تفاقم العنف الهيكلي ينتج عنه أيضا ما يسمى بالعنف الداخلي (إيذاء النفس)، مثل الاكتئاب والاضطراب وشعور العزلة والعجز وقد يصل الحال إلى الإدمان والانتحار. توصلت بعض الدراسات إلى أن عدم الاستقرار الهيكلي الذي يتعرض له البدون يؤدي إلى ارتفاع معدلات الانتحار والتفكير بالانتحار بينهم. لذلك نجد أنه في آخر عامين أقدم على الانتحار ما لا يقل عن ستة أفراد من البدون، ومنهم من حرق نفسه محاولا الانتحار.

إن استمرار معاملة البدون على هذا الحال سيؤدي إلى مزيد من مظاهر عدم الاستقرار ولن يمنع البدون من السعي وراء حقوقهم واحتياجاتهم، بل قد تعزز من مظاهر العنف كما توصل إليه منظرو الاحتياجات البشرية. لذلك، أي حلول لا تلامس هذه الاحتياجات الأساسية وتهدف إلى المعالجة بدلًا من الردع ستكون حلول سطحية، وقد تتفاقم الأزمة نتيجة عدم تلبية تلك الاحتياجات. أخيرا، "الردع لا يمكن أن يردع"، كما يقول بورتون، مشيرا إلى عدم فعالية الأساليب القسرية لتغيير سلوك الجماعات عندما تضطر إلى التصرف على أساس تلبية احتياجاتٍ أساسية.                     

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد