dark_mode
  • الجمعة ١٩ / أبريل / ٢٠٢٤
البدون.. قضية سياسية - فهد الخليل

البدون.. قضية سياسية - فهد الخليل

ظهرت في الآونة الأخيرة أصوات كثيرة تشير إلى أن البدون قضية "إنسانية"، متناسين إضفاء الأصل الجوهري والصبغة الحقيقية عليها كقضية سياسية بامتياز؛ مما يُدخل هذه القضية في حيّز وإطار واحد هو أن هنالك من يحتاج للمساعدات الإنسانية فقط ويجب تسهيل بعض احتياجاتهم، دون الرجوع لمعرفة حقيقة أي من السياقات التاريخية التي تعطيها الخصوصية السياسية. لذلك تعتبر النظرة المجتمعية في التعامل مع قضية البدون على أنها قضية إنسانية أمرا طارئًا ومفتعلًا ولا يمت للواقعية السياسية بصلة.

أريد أن أتطرق بدايةً إلى كيفية تعامل الدولة مع قضية البدون في مراحلها الأولى والتي نتج عنها ضياع الهوية السياسية، الأمر الذي يوثق أيضا مسألة مهمة وهي المسميات التي وضعتها الحكومة للبدون حتى قبل نشأة الدولة المدنية. فقبل عام ١٩٥٩م كان البدون يقطنون بادية الكويت آنذاك؛ فكانت تسميهم الدولة في الأوراق الرسمية سكان "بادية الكويت"، وهنا إشارة إلى أن البدون مكون أساسي وأصيل من المجتمع الكويتي لوجودهم ضمن المحيط الجغرافي للدولة بعد ترسيم الحدود بين الكويت والعراق. ونجد في مؤتمر العقير عام ١٩٢٢م أن البدون كانوا يعيشون ضمن هذا الإطار الجغرافي أي داخل الأراضي الكويتية دون أن تثبت الحكومة وفودهم أو هجرتهم من أي دولة بشكل رسمي أو قانوني، وهذا دليل حقيقي أن البدون لم يغادروا المحيط الكويتي بأي شكل من الأشكال منذ النشأة وحتى بداية الدولة الحديثة وتفعيل دور المؤسسات.

أما بعد نشأة الدولة المدنية فقد تعاملت الحكومة بشكل غير قانوني مع قضية البدون لنزع الصبغة السياسية عنها والعمل على إدراجها كقضية طارئة؛ حيث تم بدايةً تغيير مسمى "بادية الكويت" إلى مسمى "غير كويتي" ومن ثم إلى "غير محددي الجنسية" وصولاً إلى مسمى "مقيم بصورة غير قانونية"؛ فالدولة بهذا الشكل تريد نزع مسمى سياسي أصيل وإفراغه من محتواه وتحويله إلى مقيم؛ لتعطي صورة مشوهة للمجتمع المدني في الكويت، أو لتضليل حقيقة القضية على المستوى الدولي، بوصف البدون على أنهم مقيمين غير شرعيين.

لذلك تم العمل لفترات طويلة على نسب جنسيات من دول مختلفة لأفراد البدون دون مسوغ قانوني أو أحكام قضائية نهائية تؤكد فعليًا عدمية مواطنتهم وانتمائهم لدول أخرى، مما يعطي دلالة واضحة وجلية على أن تعامل الدولة مع القضية كان سياسيًا وليس سواه قط. كما أن البدون لا يعتبرون بطبيعة الحال لاجئين أو طارئين على الدولة نتيجة كوارث طبيعية أو حالات حرب، ولو كان ذلك هو الحال لكان لدى الحكومة الحق باستخدام أدواتها القانونية والدستورية لترحيلهم إلى بلدانهم الأصلية.

كما وتراهن الحكومة على مسألة الوعي الجمعي في تطبيع مسألة البدون كقضية إنسانية ليتم التعامل معها على هذا الأساس لتغييب الحق الأصيل والحد من المطالبات بتجنيسهم والاكتفاء بالحد الأدنى من الحقوق كحق التملك والعمل والتعليم. لذا؛ فإن أي حل ينطلق من منظور "إنساني" فقط مع تغييب الصورة الحقيقية للقضية كقضية سياسية- سيزيد وسيساهم في مد أجل القضية إلى سنوات أكثر؛ فالدولة تعرف- بشكل أو بآخر- أنه لو تم التعامل مع قضية البدون بسياقها السياسي لن يكون الحل إلا تجنيس جميع الأفراد المسجلين في الهيئة العامة للمعلومات المدنية؛ لذلك نرى إصرار وسائل الإعلام الدائم على تأطير قضية البدون بسياق إنساني وليس سياسي وهو شكل من أشكال التعمد لوضع صورة لا تخدم البدون على أنهم أفراد مواطنين بل أشخاص بحاجة للمساعدة فقط، وهنا نفهم ضرورة وصف الأشياء بمسمياتها الصحيحة.

وتأكيدًا على حقيقة الإطار السياسي لقضية البدون- أشير إلى أن الدولة قامت بإدراج البدون ضمن سوق العمل وكذلك ضمن المؤسسات السيادية في الدولة كوزارتي الدفاع والداخلية، ولا يمكن أن تتعامل أي دولة بالعالم مع أفراد طارئين أو لاجئين بهذه الطريقة وتقوم بإدراجهم في أماكن حساسة في المؤسسات الأمنية لمجرد أنهم أفراد بحاجة إلى العمل، بل كانوا يعاملون على أساس كونهم مواطنين وليسوا أفرادًا لاجئين يبحثون عن فرص عمل؛ فمن يحمل السلاح هو بالضرورة مواطن ولا يمكن أن يكون غير ذلك.

وفي نهاية المطاف تحتاج قضية البدون إلى قرار سياسي لحسم أزمة الهوية لا قرارًا إنسانيًا، فكما أشرنا سابقًا القرارات الإنسانية لا تعتبر سوى عودة للوراء والرجوع بخفيّ حنين، فكل الأقليات حول العالم التي عانت من أزمة الهوية انتهت بحل سياسي (أي بالتجنيس) وذلك بالامتثال إلى ما تحتمه الحقيقة والركون إلى القانون والدستور، فالعالم الآن يدور حول فلك التطور والبناء ولا يمكن اللحاق بهذا الركب الدولي دون تنمية المورد البشري وتعزيز دور دولة المواطنة الواحدة.

 

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد