dark_mode
  • الجمعة ٢٦ / أبريل / ٢٠٢٤

"القانون الحقيقي" و"الصالح العام" – أحمد السويط

ترحيل طالبي اللجوء في بريطانيا إلى رواندا

لعل من أسوء الخطط التي أقرتها الحكومة البريطانية في تاريخها هي تلك التي حاولت من خلالها مؤخراً- ولا تزال تحاول- أن ترحّل طالبي اللجوء (بدءاً من 01 فبراير 2022) إلى جمهورية رواندا التي تبعد عن العاصمة لندن ما يقارب 4000 كم. الهدف من هذه الخطة- حسب زعم القائمين عليها- هو الحدّ من تدفّق "المهاجرين غير النظاميين" كما يسميهم الإعلام الحكومي والمؤيدون له. هذا التصريح يكشف تناقض القائمين على مشروع الترحيل، وزيف ادعائهم بأن رواندا بلد آمن يراعي حقوق الإنسان ويوفر لطالبي اللجوء الحماية من الاضطهاد، فلو كانت رواندا كذلك فلماذا يعتبر الترحيل لها أداة لتخويف الراغبين باللجوء إلى بريطانيا؟ ولكن ما آلت إليه أمور هذه الخطة يكشف أهمية الوعي والعمل القانوني المخلص الذي لولاه لتقوضت منظومة العدالة ومكانة القانون في نفوس الناس.

موقف المجتمع المدني في بريطانيا

لا جديد في تناقض وكذب السياسيين الذين يقتاتون على معاناة الأقليات المستضعفة والمهمشة في كل مكان حول العالم، ولكن ما يهم هو الدرس الذي تقدمه لنا مواقف (بعض) أفراد ومؤسسات المجتمع المدني (وقادة الكنائس) في بريطانيا الذين قاموا بحملات إعلامية وقانونية لمنع التعسف والعنف الحكومي الذي تتضمنه خطة الترحيل. ومن ضمن الجهود الشعبية، قام الأهالي بحملات توبيخ لأفراد الشرطة الذين جاءوا لاعتقال طالبي اللجوء في مناطقهم بهتافات (shame on you)، كما قاموا بإغلاق الشوارع والنوم على الإسفلت لمنع سيارات الشرطة من إتمام عمليات اعتقال طالبي اللجوء تمهيداً لترحيلهم. ولكن لم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما تظافرت الجهود الشعبية التي بذلها الأفراد ومنظمات حقوق الإنسان مع تفاني القانونيين المخلصين الذين وظّفوا أدواتهم المعرفية ومهاراتهم التحليلية والنقدية للنصوص القانونية لإنقاذ وحماية المستضعفين من تعسف واستغلال السياسيين للسلطة التنفيذية.

دور حقيقي للقانونيين

لم يكتف الممثلون القانونيون لطالبي اللجوء الصادر بحقهم قرارات الترحيل من بريطانيا بإجراءات الدفاع الروتينية، بل خاضوا معركة استنزاف قانونية تطلبت الترافع عن كل حالة على حدة لضمان عدم إقلاع طائرة الترحيل بأي من طالبي اللجوء. وفعلاً فقد نجح المحامون بتخليص موكليهم من قبضة الحكومة وإزالة أسمائهم من قائمة الترحيل بأحكام قضائية واحداً تلو الآخر حتى تم إلغاء الرحلة بالكامل في اللحظات الأخيرة. ولكن لم تكن تلك الجهود عادية فقد مثل المحامون موكليهم بإجراءات طارئة أمام محكمة الاستئناف والمحكمة العليا والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وكان شعارهم "لا أحد فوق القانون" مما يعبّر عن إيمانهم بأن التعسف ضد المستضعفين أمر لا يقرّه صحيح القانون.

حماية المستضعفين حماية لمنظومة العدالة

 بعد إعلان إيقاف عمليات الترحيل، وضّح أحد أبرز محاميي المحكمة العليا في المملكة المتحدة أن قرارات المحكمة وتنازلات وزارة الداخلية في اللحظات الأخيرة "لم تكن لتحدث لولا جهود المحامين التي تعكس "القانون الحقيقي" وليس "الثغرات،" بإشارة إلى أن دور المحامي في جوهره يكمن في السعي لتطبيق صحيح القانون وليس في ايجاد الثغرات التي غالباً ما يرتبط وجودها بإمكانية استغلالها لمصلحة الأقوياء ضد الضعفاء (سياسياً). في هذا السياق أكدت أستاذة القانون في إحدى جامعات لندن أن وراء هذا النجاح فريق من الأشخاص "الرائعين" الذين عملوا على مدار الساعة لمدة 22 يوم حرموا فيها أنفسهم من النوم، كما أنهم كانوا يعملون تطوعاً من غير مقابل مادي، مضيفةً أن "هؤلاء ]المدافعون عن الضعفاء[ هم الأشخاص الذين سيحافظون على بلدنا آمنًا وصادقًا وصالحًا. يجب أن نحارب التعسف والقسوة التي سادت. هذه ليست بريطانيا التي نحبها."

تطبيق القانون للصالح العام

لا يربط القانونيون الذين دافعوا عن المشمولين بخطة الترحيل إلى رواندا سوى عِشرة بضعة شهور، فقرار الترحيل يشمل من وصلوا إلى بريطانيا في 01 فبراير 2022 وما بعد. كما أن الجهود الاستثنائية التي قدمها القانونيون لم تكن مقابل أجور مادية، فقد كان عملهم تطوعياً (pro bono) وفق نظام تمثيل قانوني يقدمه متخصصون قانونيون مجّاناً لأسباب كثيرة أهمها تطبيق القانون للصالح العام- الصالح العام في هذا السياق ليس ذلك المصطلح الفارغ الذي تستخدمه بعض السلطات بشكل غامض كلما عجزت عن تبرير ممارساتها بشكل واضح دقيق، أو كلما أرادت حجب حق الأفراد في التقاضي، وإنما هو ما ينتج عملياً عن تفعيل دور السلطة القضائية وتطبيق صحيح القانون على الجميع لحماية المهمشين والضعفاء من طغيان الأقوياء وأصحاب النفوذ في المجتمع.

ماذا ينقصنا في الكويت؟

الصالح العام بمعناه العملي هو ما يربط القانونيون الحقيقيون بمن يعانون من التعسف أو سوء استغلال السلطات الإدارية والسياسية. ولعل السبب الذي يدفع الحكومة البريطانية الحالية إلى محاولة إبعاد طالبي اللجوء آلاف الأميال بعيداً عن بريطانيا هو علمها بأن المجتمع بأفراده ومؤسساته المدنية لن يسمح لها ولن يقف متفرجاً عليها وهي تتعامل مع المهمشين والمستضعفين خارج إطار القانون. ومع تقديرنا لجهود بعض القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني في وطننا الكويت استجابة لإضراب البدون الذي عبّر فيه الأخوة محمد البرغش وفاضل الشمري ويوسف الزهيري عن حالة اليأس التي وصل إليها مجتمع البدون من تعسف وتسويف وتجاهل لقضيتنا، إلّا أننا لا نزال نستغرب ونستنكر الموقف العام للقانونين في الكويت تجاه ما نعانيه نحن البدون من الممارسات الحكومية التي لا تترك أمامنا خياراً سوى القبول بتزوير مراكزنا القانونية وبالتالي تدمير مستقبلنا، أو الهجرة القسرية والتغرّب عن وطننا وأهلنا، أو الانتحار نتيجة فقدان الأمل. ألا تربطنا بالمجتمع المدني والقانونيين في الكويت "عِشرة عمر" أطول من تلك التي بين القانونيين في بريطانيا وطالبي اللجوء الجدد؟ أليس ما نعانيه من ممارسات تضييق وضغط وخطاب كراهية ممنهجة أمور غير قانونية وغير دستورية؟ أليس تطبيق القانون والدستور الكويتي وحماية مكانتيهما من الصالح العام؟

قد يظن البعض أن الوضع في بريطانيا مختلف، وأن مؤسسات المجتمع المدني والقانونيين هناك يتمتعون بسقف حرية أعلى، ولكن الحقيقة غير ذلك، فلم تكن طريق الأفراد والقانونيين في التصدي لخطة ترحيل اللاجئين مفروشة بالورود، فقد استخدمت حكومة جونسون القوة والاعتقالات ضد الكثير من المتجمهرين، كما بثت عدة منصات إعلامية خطابات الشيطنة والتخوين ضد المحامين الذين دافعوا عن طالبي اللجوء الذين كانوا على وشك الترحيل. إن ما يختلف هو إيمان ثلّة من المجتمع المدني والقانونيين في بريطانيا بدورهم المجتمعي في نشر الوعي القانوني والعمل على تطبيق روح القانون وتفعيل دور منظومة العدالة بكل السبل المتاحة من أجل حماية المجتمع من طغيان القوى الاجتماعية-السياسية المهيمنة والمحافظة على نظام الحياة المدنية الذي لولاه لتحولت الدولة إلى غابة يأكل فيها القوي الضعيف. هذا تحديداً ما ينقصنا في وطننا الكويت، وما نحتاجه نحن البدون الآن أكثر من أي وقت مضى. وهذا لا يعني أننا نحمل شركاءنا في الوطن مسؤولية الدفاع عنّا بينما نقف نحن مكتوفي الأيدي، وإنما نطالب القادرين منهم بأن يعينوننا على تطبيق مبادئ "القانون الحقيقي" و"الصالح العام" كما وردت أعلاه.  


* مصدر صورة المقال: وكالة رويترز.

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد