dark_mode
  • الخميس ٢٥ / أبريل / ٢٠٢٤
متعففون بصورة غير قانونية - نفلة الحربش

متعففون بصورة غير قانونية - نفلة الحربش

وقفتْ وقد علقتْ عصاها ذات المقبض المقوس على ذراعها حاملةً كيس أرز صغير وعلبة حليب مجفف كبيرة اشترتها من سيارة نقل خاص كانت واقفة ضمن عدة سيارات في ساحة ترابية تجمع حولها المارة في أحد مناطق الـ "بدون" فروع تموين. لم تكن مشيتها المثقلة تسعفها لانتهاز الفرص القصيرة من خلو الشارع من السيارات لتتمكن من العبور!

خففتُ من سرعة سيارتي وأضأتُ الإشارات الجانبية الوامضة متوسطةً الطريق بين الحارتين لأجبر السيارات المسرعة من خلفي على الوقوف والسماح لها بالعبور. تراءت لي ابتسامتها وقد رفعت ذقنها بدلًا من يدها المشغولة بحملها بحركة سريعة كتحية لي. وبتأنٍ مسحت بقدمها الأرض تتلمس طرف الرصيف قبل نزولها إلى الشارع الذي تزايد فيه عدد السيارات المتوقفة مع مرور الوقت. بدا عليها الارتباك بعد أن خطت خطوتين فبدأت تسرع الخطى لتختصر وقت الانتظار على أصحاب السيارات المترقبة. وما أن وصلت إلى منتصف الشارع حتى تعثرت رجلها بطرف عباءتها بعد أن انزلقت من رأسها فسقطت منكبة على وجهها، إلا أن كيس الأرز وكفها الذي استند على الأرض منعا جسدها من الارتطام على اسفلت الطريق، فيما تدحرجت علبة الحليب المجفف بعيدًا. قرّبتُ سيارتي منها أكثر ثم نزلت أساعدها على النهوض. لم ترفع عينيها لتنظر إلي أو لتنظر حولها! سألتها: هل أنتِ بخير يا خالة؟ فهزت رأسها بالإيجاب. أسندتها وأركبتها السيارة وحملت كيس الأرز ووضعته على المقعد الخلفي، ثم هرولت المسافة بين السيارة وعلبة الحليب المركونة بجانب الرصيف، التقطتها وعدت لأصعد السيارة مسرعة حتى لا أعطل حركة السيارات خلفي أكثر. أعدت السؤال عليها وأنا أعيد توجيه السيارة للطريق: هل أنتِ بخير؟ أجابت: أنا بخير يا ابنتي. ثم أجهشت بالبكاء! مسحتُ بيدي على ظهرها: خلاص يا أمي لا تبكي أرجوكِ، سآخذك للطبيب للاطمئنان عليكِ. أشارت بيدها كي أستدير عند نهاية الشارع وهي تقول: لا يا بنتي خذيني للبيت أنا بخير.

أخذت ترشدني بتلويحاتٍ من يدها مرتين نحو اليمين ثم نحو اليسار إلى أن امتد الشارع مارًا بسور مدرستين وساحة مسجد وفرع لجمعية تعاونية، حتى وصلنا إلى بيت ركنت أمامه وبطريقة غير منتظمة سيارات نقل عام وخاص كان معظمها يحتاج إلى صيانةٍ عاجلة. "هذا هو البيت، أسكن الملحق منه" قالتها وهي تمسح بطرف خمارها دموعها ووجهها وتتنفس الصعداء وكأنها تستعد لمشهد لا يحتمل حالة البؤس التي كانت عليها.

لم يسع ضيق الطريق بأن أتقدم أكثر نحو باب الملحق. توقفتُ حيث توقفت المساحة عن استيعاب حجم سيارتي، فكانت سيارتي من الطريق كسدادة لعنق زجاجة.

نظرت إلي تشكرني فرأيت إدبار الحياة في عينيها! سألتها: أمي.. لمَ لم يكن معك أحد ليساعدك في أخذ التموين؟ فأجابتني بنصف ابتسامة وتنهيدة من حزن: تموين! لي ولد واحد كان عسكريًا في الجيش توفي منذ أعوام وترك لي رعاية بناته الأربع، أخشى عليهن من الخروج إلى الباعة والتسوق في الأماكن المفتوحة. ليس لنا تموين لنأخذه، ما هذا إلا فائض حاجة بعض الأسر يبيعونه علينا بثمن يمكنني تدبيره أحيانًا.

لم أتردد وأنا أوجه لها معلومة عن وجود لجانٍ خيرية تساعد الأسر المتعففة. سمعتُ ضحكةً مختومةً بالآه قبل أن تعقب على معلومتي الناقصة: اللجان الخيرية ممنوعة من مساعدة من لا أوراق ثبوتية عنده. ثم شرحت لي معاناتها في محاولاتها البائسة للحصول على المساعدة.

لم أتمكن بعدها من الحديث. رأيت همها جاثمًا فوق كل تعبير يمكن أن أستخدمه لمواساتها. أخذتُ أنظر إليها وهي تحاول النزول من السيارة، مددتُ لها عصاتها فاتكأت عليها ووقفت بصعوبة بعد أن أسندت يدها على مقعد السيارة. تركتُ لها الوقت للنزول وحملتُ كيس الأرز وعلبة الحليب إلى باب الملحق الذي كان مفتوحًا، فسمعتها تقول لي: ادفعي الباب يا ابنتي وضعي الأغراض على الأرض. وضعت الأغراض وأنا أسمعُ جلبةً في الداخل فخرجت مسرعة كي لا أسبب حرجًا من أي نوع لحفيداتها. نظرت إليها فوجدتها قد أغلقت باب السيارة من جانبها ووقفت تحرس بابي المفتوح إلى أن وصلتُ وقبلتُ جبينها، فشكرتني وأخذت تدعو لي بالخير.

وعندما هممت بركوب السيارة لاحظتُ طبعة يدها المخضبة بالدم على المقعد! عدت إليها أتفحص يدها وإذا بجرح من الأرض التي سقطت عليها لم يوقف ما لفته من خمارها نزيف الدم منه!

تناولتُ علبة مناديل وسحبتُ ما في بطنها كله ووضعته على الجرح. فقبضتْ على المناديل مبتسمة: مع السلامة يا بنتي.

غادرتني وأنا أرقب خطواتها إلى أن دخلت الملحق وأغلقت الباب خلفها غير مكترثة بجرح كفها، فعلمتُ أن هناك جرح نازف غائر عميق في قلبها.

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد