dark_mode
  • الخميس ٢٨ / مارس / ٢٠٢٤
اختلاف اللهجة في المجتمع الواحد.. دليل صحة أم عائق مواطنة – جاسم محمد الشمري

اختلاف اللهجة في المجتمع الواحد.. دليل صحة أم عائق مواطنة – جاسم محمد الشمري


·        الإقصاء استنادا على لهجة المتحدث جهل مركب وعنصرية بغيضة.

·        الاختلاف منبع قوة للمجتمع وجسر تواصل له مع الآخر.

ضمن حملة تستهدف على ما بدا منها التقليل من جهد حركة الاحتجاج السلمي التي ينفذها نشطاء من البدون بإعلانهم الإضراب عن الطعام إلى أن تعمد السلطة المعنية بالمبادرة إلى طرح حلول عملية لمعالجة هذا الملف ومنح هؤلاء المواطنين حقوقهم المعطلة منذ أكثر من نصف قرن حتى الآن.. بث مغردون مقطعا يشير إلى جنسيات هؤلاء وفق ما تدعيه الجهات المكلفة ببحث أوضاعهم إلا أن ما لفت انتباهي كمتابع قبل أي شيء ما أورده معد المقطع حول لهجة مسن ظهر في الفيديو والاكتفاء بأن لهجته تدل على جنسيته.

هنا تحديدا برز إلى عقلي المثقل بعلامات الاستفهام سؤال حول مدى صحة أن تكون اللهجة بحد ذاتها دليلا على انتماء شخص ما إلى إقليم جغرافي بعينه دون غيره.. واستطرادا تساءلت هل يعد اختلاف اللهجات في المجتمع الواحد منقصة يعاب عليها المختلفون أم أنها مصدر قوة تعطي المجتمع صحة تتمثل في تنوع مكوناته وتناغمها وتزاوجها لتشكل نواة للهجة مشتركة في بعض مفرداتها بعد مضي فترة من اندماج هذه المكونات ببعضها البعض عبر التلاقي المباشر أو المجاورة في السكن أو المصاهرة وغيرها من أشكال التمازج الاجتماعي.

اللهجة ومثلها الفنون الشعبية تعبر عن حالة اجتماعية على ما أرى وليس لها علاقة بوضع قانوني يربط الفرد بكيان ينتمي له ويكتسب معه جنسيته.. وفي الحالة العربية يبدو أن نسبة الفرد إلى جهة جغرافية محددة بناء على لهجته ضرب من الحمق وذلك أن اللهجة في أصل تكوينها تعبير عن كيانات اجتماعية وليس كيانات قانونية.. فلهجة قبيلة العجمان أو قبيلة مطير ليست هي لهجة قبيلة البدور أو المنتفق واخترت المثالين تعمدا لأن القبيلتين الأوليين ممتدتين من الكويت إلى الجنوب والأخريين ممتدة من الكويت إلى الشمال وعليه فإن اعتبار قبيلتي العجمان ومطير كويتيتي الأصل والمنشأ وقبيلتي البدور والمنتفق غير ذلك وبالتالي إمكانية أن تكون لهجة مقبولة وأخرى منبوذة أمر يكشف مقدار التشوه الذي خلفته قضية البدون على مدى عقود من تجذرها في المجتمع. 

الباحث علي عبد الواحد وافي يشير في كتابه "اللغة والمجتمع" أن لغة المحادثة في البلد الواحد أو المنطقة الواحدة تتفرع إلى لهجات مختلفة تبعا لاختلاف طبقات الناس وفئاتهم والمهن التي يحترفونها، ويطلق عليها بحسبه السوسيولسانيون المحدثون اسم "اللهجات الاجتماعية، ويضيف إن ما يؤدي إلى ظهور مثل هذا النوع من اللهجات هو ما يوجد من اختلافات بين طبقات الناس وفئاتهم في الثقافة، والتربية، وشتى مناحي التفكير، ومستوى العيش، وحياة الأسرة، والبيئة الاجتماعية، والتقاليد والعادات، وما تزاوله كل طبقة من أعمال وتطلع به من وظائف، والآثار العميقة التي تتركها كل وظيفة ومهنة في عقلية المشغلين بها، وحاجة كل طبقة إلى دقة التعبير وسرعته وإنشاء مصطلحات بصدد الأمور التي يكثر ورودها في حياتهم، وما يلجؤون إليه من استخدام مفردات في غير ما وضعت له أو قصرها على بعض مدلولاتها، وذلك للتعبير عن مواقف ترتبط  بصناعاتهم وأعمالهم...، وليخلص أن كل هذه العوامل وغيرها من شأنها أن تخلق نوعا من التباين في اللهجة حسب كل طبقة، واللهجة الواحدة تتشعب إلى لهجات تختلف كل منها عن أخواتها في العديد من المستويات، سواء تلك المرتبطة بالمعجم أو التركيب أو الأصوات أو دلالة الألفاظ.

هل إذا قلبت الياء جيما أو استبدلت الكاف سينا فإن ذلك دلالة على انتمائك لإقليم سياسي محدث أم أنه في مساحة الجزيرة العربية ذات الامتداد الجغرافي الواحد على مدى مئات السنين لا تعدو كون هذه الاختلافات دليلا على الانتماء فقط إلى قبيلة محددة بعينها وبالتالي فإن ارتحالها شمالا أو جنوبا شرقا أو غربا لن يعطي تلك الدلالة التي يحاول الإقصائيون الجدد فرضها باعتبار أن هذه لهجة شمالية مرفوضة وغيرها جنوبية مقبولة.

الباحث السعودي سليمان الدرسوني وثّق في كتابه الإلكتروني "معجم اللهجات المحكية في المملكة العربية السعودية" نحو 23 لهجة داخل المملكة وحدها، لكل منها خصائصها ومفرداتها المميزة والأمر نفسه ينطبق على الدول العربية المختلفة ففي مصر مثلا هناك اللهجة الريفية واللهجة الإسكندرانية، واللهجة الصعيدية، فأيها يمثل الدولة وأيها لا يمثلها أم أنها جميعا مقبولة في سياق تقبل الآخر.

ويشير اللسانيون إلى تعدد اللهجات في اللسان العربي ومن ذلك لهجة الكشكشة التي تفرض استبدال كاف المخاطب بالشين فيقال عليش بدلاً من عليك، وتحدثت بها قبيلة تميم، ولهجة الكسكسة، وتتضمن إضافة سين بعد كاف التأنيث، فيقال منس بدلاً من منكِ، وتحدثت بها ربيعة ومضر، ولهجة الشنشنة، وتتضمن إبدال الكاف شينا في المطلق، فيقال لبيش وليس لبيك وتحدثتها قبائل اليمن، وهناك لهجة العنعنة ويتم فيها إبدال الهمزة بالعين، فيقال عن بدلاً من أن وتحدثت بها قبائل أسد وقيس وتميم.

وإجابة على سؤال أوردناه حول ما إذا كان بالضرورة أن يكون للبلد الواحد لهجة واحدة يقول الأكاديمي د. فارس الوقيان إنه لا يتفق مع هذا الرأي، لأن التعددية والتنوع سنة من سنن الكون نجدها في كل مكون من مكونات الحياة والطبيعة الرائعة وكذلك الحال بالنسبة للهجات  فإنها تعبر عن مرجعيات إثنية وثقافية وجغرافية للتجمعات البشرية التي تعيش داخل حدود الوطن الواحد لذلك يمكننا القول بأن تعدد اللهجات بمثابة ثراء قومي للدولة وأن تلك المجتمعات التي  تتعدد بها اللهجات هي بمصاف الدول التي تقود  الحضارة الكونية الراهنة انطلاقاً من أميركا وأوربا ومروراً بالهند والبرازيل وانتهاءً بشرق آسيا مما يعني أن أنموذجها ينبغي تقليده واقتفاء أثره.

وما إذا كان تعدد اللهجات في المجتمع الواحد يشكل مصدر ضعف يشتته أو مصدر قوة منبعه التنوع؟ يرى الوقيان أن تعدد اللهجات يعتبر مصدر تماسك الدول والمجتمعات وقوتها وصلابتها مستطردا بشرح ذلك أن التاريخ يدلنا على أن الحضارات ذات اللهجة الأحادية والثقافة المركزية قد اضمحلت سريعاً، ويتساءل: فماذا يعني أن تتعدد اللهجات؟ ليجيب بأنها تعني أن اللهجة هي جسر ممتد بين الجماعة التي تتحدث بها ومرجعيتها التابعة لها في البلدان والقارات الأُخرى المجاورة مما يعطي الدولة اتساعاٌ في الرؤية وفي سوق المصلحة التجارية والتضامن الأمني الإقليمي والاستقرار المجتمعي مع الدول المحيطة ويمثل على ذلك بأن اللهجة القبلية في الكويت تعزز بلا شك العلاقة مع دولة شقيقة كبرى مثل السعودية بما يشكل عمقا استراتيجيا مشتركا بين الكويت والسعودية ودول الخليج الأخرى، وكذلك الحال بالنسبة للهجات التي تتضمن مفردات عراقية وفارسية أو حتى حضارية غربية وهذا ما نقصده باللهجة كجسر التقاء ثقافي ولغوي ومعرفي واقتصادي.. ليضيف بأن الدول ذات اللهجة الواحدة ليس لديها غير جسر واحد للالتقاء مع الآخر بينما الدول ذات اللهجات المتعددة لديها جسور التقاء متعددة ومتنوعة بما ينعكس على تنوع المصالح وهنا يكمن مصدر القوة.

ويستطرد مجيبا على تساؤل حول محاولة البعض إقصاء شركاء له في الوطن بدعوى اختلاف اللهجة أن أي فعل يقوم على الإقصاء يعبر عن جهل مركب وخوف كامن بالذات البشرية وعنصرية بغيضة ففعل الإقصاء والنفي هو حالةٌ مرضيّة يقوم بها شخصٌ خائف مرتعد ينظر للعالم من تحت باب غرفتهِ ولا يستطيع التعايش مع هذا العالم ولذلك نحن نرتكب خطأ جسيماً في ثقافتنا العامة بالمطالبة بعلاج الضحايا فمن يحتاج علاج حقيقي وفعلي عميق هو الجاني وليس الضحية لأنه لم يقم بفعل الإقصاء إلا لوجود مرض نفسي يعاني منه.

هل يمكن أن يكون للهجة دلالة سياسية أو جغرافية.. طرحت هذا السؤال على الأكاديمي الوقيان فرد بأن علينا الاعتراف أن اللهجة وسيلة وليست غاية بمعنى أنها وسيلة للتخاطب بين البشر لإيصال فكرة ما أو للتعبير عن موقف أو لتعزيز علاقات بشرية بين تجمعات ولا تعبر عن انتماء لدولة وهنا لا بد من أمثلة يضيف: قد أكون كويتياً وأتحدث لهجة سعودية أو عراقية أو أجنبية وولائي لبلدي الذي أنتمي اليه وأحمل جنسيته وهو الكويت وقد أتحدث اللهجة الكويتية بامتياز وأخون الكويت وأسرق أموالها وهذا ما نقصده بأن اللهجة من الناحية الواقعية هي وسيلة اتصال أكثر من كونها غاية نسعى لتحقيقها… وعلينا أن لا نضخم ضرورة وجودها لأنها مظهر من مظاهر الهوية لا أكثر.. ويختم بأن الهوية قد تكون وسيلة صراع حزبي وتغول مجتمعي وتقاتل عرقي وقد تكون وسيلة تضامن وتعايش مدني ووطني فنحن من يختار الطريق الذي نمشي عليه بوعينا بشكل ومفهوم المواطنة الصالحة التي تضم وتحتوي كل اللهجات في الوطن الواحد.

الكاتبة بشاير العبد الله ترى أن اللهجة لا يمكن أن تكون مقياسا للوطنية أو دليلا على الانتماء إلا بمفهوم ضيق يشار به إلى الوطن كقرية صغيرة تضم أفرادا معينين وهذا استحالة حدوثه في دول تأسست ورسمت حدودها وهي تحمل في داخلها أنماط متعددة من الثقافات لجماعات وقبائل تتحدث كل منها بلهجة واحدة في السابق بحكم طبيعة ذلك المجتمع.

وتضيف أن الدول الحالية لا يمكن اعتبارها جماعة واحدة كما أن استقرار الشعب في مكان واحد لا يمنح لأحد منهم أحقية أن تكون لهجته هي المعتمدة للدلالة على هذا البلد، وعليه، تخلص العبد الله إلى أن تعدد الثقافات وبالتالي تعدد اللهجات أمر حتمي في ظل التغيرات التي طرأت وتطرأ على خارطة السياسة والجغرافيا للدولة.

التربوي نايف العنزي يؤكد بأن للهجة دلالات سياسية وجغرافية ويتضح هذا الأمر في الدول الكبيرة ذات المساحات الشاسعة والتي يتبين منها أحيانا الانتماء لفكر معين كالاشتراكية، ويضيف ليس بالضرورة اتحاد اللهجة أبدا أما تعددها فليس مصدر ضعف فكل الدول التي فيها تعدد لهجات تجد مواطنيها متعايشين ويتقبلون المختلفين عنهم ودولهم ذات قوة وإنتاجية أما الذين يحاولون الإقصاء فهم غالبا ممن يرون أن المكان لهم خاصة ويؤمنون بمسألة الخادم والمخدوم والعبد والسيد ولا يقبلون بالاختلاف ويخشون من انصهار المجتمع وتعايشه مع بعضه البعض لأن نفوذهم فيه سيقل وينتهي.

الأكاديمي د. حمد العجمي يرى من جهته أن اللهجة قد تدل على انتماء المتحدث بها لرقعة جغرافية معينة إلا أنه يستدرك بأن ذلك ليس بالضرورة إذ أن هناك استثناءات، ويضيف ردا على ما إذا كان بالضرورة أن يكون البلد الواحد بلهجة واحدة بالقول إنه يعتمد على تعريفنا للهجة ولكن بشكل عام يصعب أن تكون هناك لهجة واحدة بين أفراد الجماعة الواحدة فضلا عن الدولة الواحدة ويستطرد أن تعدد اللهجات في الجماعة يدل على انفتاحها على المجتمعات الأخرى وهذا الانفتاح برأيي يجعلها تكتسب خبرات ومهارات جديدة، ويضيف أن الانغلاق والنظر للمختلف نظرة الخطر لها أسباب متنوعة أحدها أن هذا الانغلاق من رواسب البنية الاجتماعية البدائية الموغلة في القدم عندما كان الآخر يشكل خطرا على مصادر الحياة التي تتمتع بها جماعة معينة.

التربوي فايز الشمري يقرر بأن اللهجة غالبا تكون دليلا على الانتماء لدولة ولبقعة جغرافية معينة ويضيف إنه ليس بالضرورة أن يكون البلد الواحد بلهجة واحدة مستطردا أن أغلب الدول ذات المساحات الكبيرة كالهند وغيرها فيها لهجات متعددة وثقافات مختلفة ولكنهم ينتمون لدولة واحدة، ويرى أن تعدد اللهجات أحياناً يصاحبه فئوية وطبقية في المجتمع يتم عبره التصنيف والتمييز وأن محاولة البعض إقصاء شركاء له في الوطن بدعوى اختلاف اللهجة مرجعها الانفراد والتمييز والعنصرية.

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد