dark_mode
  • الخميس ٢٥ / أبريل / ٢٠٢٤
بدون صوت – أحمد السويط

بدون صوت – أحمد السويط

في هذا المقطع، يتحدث معلمي الراحل يان بلومرت (2020) قبل وفاته بأشهر قليلة عن خضوعه لعملية جراحية لإزالة ورم في القصبة الهوائية، مما أفقده القدرة على الكلام بشكل مؤقت، ليستخدم تجربته الشخصية هذه في شرح ظاهرة لغوية-اجتماعية وهي "أن يفقد الإنسان صوته".  يركز بلومرت على معاناة الذين لا يستطيعون التعبير أو التصرف بطرق (معترف بها اجتماعياُ) تجعلهم مسموعين مؤسسياً. وفي هذا السياق يربط بلومرت الصوت بالقدرة على أن يكون الإنسان إنسانًا، أولاً بالنسبة لنفسه، حيث يكون قادرًا على تحقيق ما يستطيع الإنسان الطبيعي تحقيقه عن طريق التعبير عن حاجاته، وأيضّا بالنسبة للمجتمع، وذلك عن طريق القدرة على أن يعرّف عن نفسه وموقعه فيه.

يقول بلومرت في هذا المقطع: "بلا صوت لا أحد يفهمك. في الأيام القليلة عندما لم أستطع التحدث، وذلك بعد العملية الجراحية مباشرةً، لم أتمكن من التعبير عن نفسي إلا عن طريق الكتابة، ولكن بحكم مرضي لم أستطع الكتابة بشكل واضح، لذلك كان على الممرضات والأطباء فك رموز ما كنت أكتبه. كانت طريقة غير مرضية على الإطلاق. هذه درجة أخرى من أن تكون بلا صوت. لكن الشيء نفسه ربما يكون نتيجة عدم امتلاك موارد اللغة اللازمة، أو عدم امتلاك الخبرة في أساليب معينة للتعبير المباشر وغير المباشر، أو لعدم معرفة المصطلحات التي تحتاج استخدامها للتعبير عمّا تعانيه وما تحتاج الوصول إليه". ألا يشبه هذا ما يعانيه البدون من تجاهل لأصواتهم، على الرغم من أنهم يتحدثّون منذ ستة عقود من الزمن، وعلى الرغم من التداعيات الخطيرة لقضيتهم؟

مشكلة (عدم سماع) الصوت
يدعونا عالم اللغة الاجتماعي والأنثروبولوجيا اللغوية ديل هايمز (1996) إلى فهم المشكلات المتعلقة بالصوت من خلال دراسة السمات اللغوية للتفاعلات الاجتماعية، ليس على مستوى جوانبها المادية، بل على مستوى أبعادها المعنوية —المعنى والقيمة والوظيفة— التي تتأثر وتؤثر بالعلاقات الاجتماعية وصراعات القوى المختلفة في المجتمع. معنى ذلك أن الطريقة التي يتواصل بها الناس، واستجابتهم أو تجاهلهم لبعضهم البعض، لا يجب اختزالها في مواقعهم المادية من المكان والزمان، أو بالظواهر الميكانيكية المتعلقة بترددات الصوت والجسد، وإنما بمواقعهم المعنوية في المجتمع، وتوجهاتهم، والأدوار التي يلعبونها فيه —معنوياً قبل كل شيء.

وفي دراسة لظاهرة الصوت في المجتمع يشرح بلومرت (2005) كيف أنه وجد خلال أبحاثه في العلاقة بين اللغة والحركة الاجتماعية في سياق نظام اللجوء في بلجيكا أن نوعًا معينًا من روايات طالبي اللجوء يتم تجاهلها من قبل المسؤولين البلجيكيين، على الرغم مما تحتويه تلك الروايات —التي يسميها "روايات الوطن"— من معلومات سياقية مهمة يتم بدونها إساءة فهم قضاياهم بسهولة. وفي هذا السياق يلفت بلومرت الانتباه إلى أن ما تحتفظ به أي رواية يتم تداولها بين الناس هو شكلها، أمّا قيمتها ومعناها ووظيفتها فهذه أمور يمنحها المتلقين لها. ولكن هل معنى هذا أن الطريقة التي نعبر بها عن أنفسنا لا معنى أو قيمة أو وظيفة لها ما لم يمنحها الآخرون تلك الخصائص؟ 

في إشارته لتفسير المفكر الروسي ميخائيل باختين لظاهرة الصوت، يشرح بلومرت كيف أن الصوت يخضع لعمليات اختيار وإقصاء (معنوية) متجذّرة بقوة في بنية الطبقية الاجتماعية، وكيف أن الخطاب الاجتماعي لم يكن يوماً أرضاً محايدة لأصوات اجتماعية مختلفة، لأن الخطاب نادرا ما توضع قواعده بشكل ديمقراطي، وغالبًا ما يتم فرضها إما بالقوة أو بالإجماع المتأثر بها. هذا المعنى يأخذنا إلى العلاقة (الجدلية) بين الإرادة الفردية (صوت السلطة السياسية) والإرادة العامة (صوت الشعب) التي تتجلى من خلال الخطاب الاجتماعي.


صوت السلطة وصوت الشعب:
 
ربما شاهد الكثير منّا فيلم المحارب (Gladiator)، وهو فيلم تاريخي من إخراج ريدلي سكوت (2000) تعود أحداثه إلى عام 180 تقريباً، ويروي قصة الإمبراطور الروماني (ماركوس أوريليوس) الذي حاول اختيار جنرال من أصول أسبانية (ماكسيموس) ليكون وصيّه، لأن ابن الإمبراطور (كومودوس) لم يكن لائقاً للحكم ولن يستطيع إنقاذ روما من الفساد، حسب اعتقاد أبيه. بعدما سمع كومودوس ذلك، قام بقتل والده، ليعلن نفسه إمبراطورًا لروما، ثم أمر جيشه بالقبض على ماكسيموس وقتله هو وعائلته. ورغم تمكن ماكسيموس من هزيمة الجيش وتخليص نفسه منهم، إلّا أنه لم يتمكن من إنقاذ زوجته وابنه قبل وصول أفراد من جيش الإمبراطور إليهما، فصعق ماكسيموس عندما وجد زوجته وابنه مصلوبين، وانهار في ذلك المشهد من جراحاته المادية والمعنوية. وبعد فترة من الزمن، قام أحد تجار الرقيق الرومان بشراء ماكسيموس وتشغيله في مسابقة (مصارعة حتى الموت) كانت تقام في صرح روماني يسمى الكولوسيوم (Colosseum).

تعود فكرة بناء الكولوسيوم لإمبراطور روما الأول (القيصر أغسطس)، ولكن من نفذها بالفعل هو الإمبراطور الرابع (فيسباسيان)، الذي قدّم المكان لأهل روما على شكل "هدية" لهم، ووسيلة للترفيه، حيث كان شيئا أشبه بدار أوبرا يتم فيها عرض الانتصارات التاريخية لروما على شكل منازلات بين مصارعين من الأسرى يعيش منهم من ينتصر ويموت من يُهزم. وعلى الرغم أنه جاء في وقت كان فيه أهل روما متعطّشين للترفيه والانشغال عن السياسة، إلّا أن الكولوسيوم كان في الواقع أداة سياسية للتحكم بالرأي العام والتلاعب بإرادة العامة، حيث يراقب الإمبراطور من أعلى تلك المنصة هتافات الجماهير، ليفهم ميولاتهم، ثم يتخذ القرارات النهائية بما يوهمهم أنه ينسجم مع رغباتهم، وربما هذا ما شجّع المؤرخ السياسي ليو كوليس (2021) أن يصف الكولوسيوم على أنّه "أفيون الجماهير" ووسيلة سياسية لانتزاع شرعية القرارات منهم. 

ولكن ليس الإمبراطور وحده من يمكنه انتزاع شرعيته من الجماهير، فحتى المناضل المستعبد استطاع أن يفعل ذلك —ولو بطريقة مغايرة تماماً وأكثر نبلًا طبعاً. عندما بدأ ماكسيموس المشاركة في مسابقات القتال التي أقيمت دخل أسوار الكولوسيوم كان يتنكر بقناعٍ حديدي، وبالرغم من أن هويته لم تكن معروفة، إلّا أن مهارته وتمكنه من الفوز في نزالات صعبة أكسباه إعجاب الجماهير، مما دعا أحد أصدقائه أن يلاحظ أهمية "صوت الجماهير" لتحقيق الحرية. وفي إحدى المنافسات الملحمية انتصر ماكسيموس انتصاراً أثار الجماهير بشكل أدهش الإمبراطور الذي أمر ماكسيموس أن يكشف قناعه ويعرّف بنفسه. عندها أعلن ماكسيموس عن نفسه، وعن نيته لأخذ ثأره، وعلى الرغم من كره الإمبراطور له، ورغبته بإعطاء الأوامر للحرس بالقضاء عليه، إلّا أن هتافات الجمهور المؤيدة لماكسيموس أجبرت الإمبراطور على التراجع عن قراره. 

وفي معركة حاسمة أُجبر ماكسيموس على أن يواجه مصارع عملاق تصعب منازلته، ناهيك عن صعوبة التغلب عليه، ورغم تلاعب زبانية الإمبراطور بسير المنازلة بقصد حسمها ضد ماكسيموس، إلّا أنه تمكن من إسقاط خصمه العملاق أرضًا. وتماهياً مع أصوات الجماهير الهاتفة بالتأييد لماكسيموس، والمنادية بموت خصمه العملاق، أمر الإمبراطور ماكسيموس بأن يجهز على خصمه الذي سقط أرضاً متأثرا بجراحه، لكن ماكسيموس امتنع عن قتل خصمه الجريح، مما جعل الجماهير تدخل في صمت الدهشة ثم تهتف له بحرارة: " ماكسيموس الرحيم". هذا الموقف الأخير لماكسيموس يعيدنا إلى ظاهرة "الصوت" والمكانة التي يكتسبها (من الآخرين) من يرتبط صوته بمعانٍ وقيمٍ ووظائف معينة. ولكنه يذكرنا أيضًا بالعلاقة الجدلية التي يتشكل من خلالها الصوت (المعنوي)، وهو ما نستفيده من موقف الإمبراطور الروماني الذي لم يستطع الاحتفاظ بشرعيته وحريته في اتخاذ القرارات، والمناضل المستعبد الذي لم يعجز عن ‘انتزاع حريته ومكانته الاجتماعية. هل هذا يعني أن مشكلتنا بصفتنا بدون لا يمكن فصلها عن أننا (ما زلنا) ’بدون صوت‘؟

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد