dark_mode
  • الجمعة ٢٦ / أبريل / ٢٠٢٤
خرج ريان من حفرة البئر وبقي أطفال البدون فيها – أحمد السويط

خرج ريان من حفرة البئر وبقي أطفال البدون فيها – أحمد السويط

لم يكن قد تجاوز ريّان السبعة أعوام من العمر عندما أوصلته الظروف المحيطة به إلى قاع بئر تبعد ثلاثين متراً عن سطح الأرض. كان وحيداً في صراعه مع الألم والخوف والظلام الذي أحاط به من كل مكان. على قدر التعاطف والزخم الإعلامي الذي أثارته قصته على مستوى العالم، إلّا أنه من الصعب على من لم يعش تجربته وصف حالة الهلع والوحشة التي عاشها عند سقوطه في البئر المشؤوم. كل ما كان بإمكاننا فعله في ظل عجزنا عن نجدته هو أن نتخيّل، وأن نحاول الوقوف معه معنوياً، وذلك هو أضعف الإيمان.
في العالم الخارجي، تفاوت معنى الحدث، بين فجيعة تهدد أمل أم وأب وأسرة بنجاة طفلهم، وبين خيبة أمل مدوية تلقاها على وسائل الإعلام المتعاطفة مع الطفل وأسرته من مختلف أقطار العالم. حبس الملايين من الناس حول العالم أنفاسهم بينما كانت عمليات إنقاذ الطفل قائمة. بعض الأسر تناوبت على متابعة مستجدات عمليات الحفر التي قامت بها فرق إنقاذ الطفل، مترقبين نتيجة الجهود الحثيثة التي كانت تبذل في سبيل إنقاذه، والاهتمام المحلي والدولي الذي لا شك أنه لم يحظَ بمثله إطلاقاً قبل أن يسقط في البئر. ولكن على الرغم من كل ذلك فقد وقع المحظور.
لقد جاءت الصدمة المؤلمة بإخراج الطفل ريان من البئر وقد فارقت روحه الجميلة عالمنا القبيح. لقد رحل إلى الخلود، كاشفاً برحيله كائناتٍ مليئة بالتناقضات. فمن بين الذين تعاطفوا معه بدوافع إنسانية أشخاص في الواقع مؤيدون لممارسات ظالمة يقع ضحيتها الآلاف من الأطفال حتى في مجتمعاتهم. أمّا المعزون بوفاته من دولة الكويت فقد كان من بينهم رئيس مجلس الأمة الذي ما زال مصرّاً على موقفه الإقصائي تجاه البدون برجالهم ونسائهم وأطفالهم. وبينما لم يحرّك ساكنا تجاه فجيعة انتحار الطفل البدون (علي ياسر) في العام الماضي فقد قدّم رئيس مجلس الأمة الكويتي تعزية رسمية إلى نظيريه المغربيين بوفاة الطفل ريان. أمّا وسائل الإعلام التي كثفت جهودها لتغطية قصة ريّان فالكثير منها لا يهتم بمعاناة الملايين من الأطفال المهمشين الذين من الممكن إنقاذهم لو تحمّل الإعلاميون والسياسيون مسؤولياتهم الأخلاقية بعيداً عن طلب الشهرة والتزلف من أجل المصالح المادية. 
ربما يعتبر البعض مقارنة معاناة الطفل ريّان مع ما يعانيه أطفال البدون في الكويت أمراً غير مناسب. بل قد وصف بعض المغردين على منصة تويتر للتواصل الاجتماعي أن من يقارن ريّان مع البدون "لاعقل له"، لأن ريّان كان عالقاً في حفرة على عمق 30 متر تحت سطح الأرض في حالة يضعف أمامها "الكبير قبل الصغير". وعندما علّق أحد المناصرين للبدون بأن وجه الشبه يكمن في أن أشباح الخوف والألم والوحشة التي أحاطت بالطفل ريّان في حفرة البئر المادية تحيط كذلك بأطفال البدون العالقين في "حفر التسويف والمماطلة"، ردّ المتحدث الأول باتهام من يتحدثون عن معاناة أطفال البدون في سياق حادثة ريّان بالحسد. ولكن ما علاقة الحسد بالموضوع؟ وهل هناك عاقلٌ في الدنيا يحسد طفلاً على فرصة النجاة من بين أنياب الموت؟
لو تمعنّا في التناقضات التي  تنطوي عليها مواقف المتعاطفين مع الطفل ريّان بينما هم يؤيدون أو على الأقل يتغاضون عن ظلم أطفال البدون لوجدناهم يعانون من أزمة أخلاقية وفكرية تتجاوز ازدواجية المعايير. فبينما يبررون التعاطف مع ريّان لجسامة معاناته كونه كان في صراع مع الألم والخوف وظلمة البئر قبل أن تفارق أنفاسه البريئة هذه الحياة، لم تهتز ضمائرهم إلى جسامة الألم الذي عاشه الطفل البدون (علي)، والضغوطات التي دفعته إلى إنهاء حياته شنقاً وهو لم يتجاوز الحادية عشرة من العمر. كذلك لم يوقظ إنسانيتهم مشهد الطفل البدون براك حسين ذي الخمسة أعوام وهو على فراش المرض يصارع من أجل البقاء، بينما يتوسل أبوه الداني والقاصي من أجل إنقاذ فلذة كبده. لا يحرّك مشاعرهم واقع آلاف الأطفال البدون المحرومين من أبسط حقوقهم في الحياة كحقهم في الحصول على هوية تمكنهم من مواكبة الحياة المدنية، وحقهم في السكن، وفي العيش في ظل أسرة مستقرة، وحقهم في الحصول على تعليم ورعاية اجتماعية تمكنهم من مواجهة صعوبات الحياة والمشاركة في بناء وطنهم الذي يعيشون فيه وينتمون إليه.
ربما لا يفهم المتناقضون ذوو الإنسانية المشوبة معنى أن يعيش الطفل البدون في حفر التجاهل والحرمان من حقوقه. ربما لا يفهمون معنى أن يحرم الطفل البدون من رؤية أبيه الذي يُسجن أو يُهجّر أو يموت بسبب سعيه لتحقيق حياة آمنة لأسرته. بل ربما يفهمون ولكنهم لا يستطيعون أن يتخيلوا أنّ أطفالهم قد يصيرون إلى ما صار إليه أطفال البدون نتيجة الإقصاء والتمييز والتهميش على أسس عنصرية. أليست "الأيام دول"؟ أليس "دوام الحال من المحال"؟ أليست الدنيا "لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك"؟ ما لا يفهمه المشتركون في ظلم البدون أن الظلم وحش أعمى لا عاصم لهم أو لأطفالهم منه سوى الوقوف ضدّه على مسطرة واحدة. لعل هذا هو أحد أهم المعاني التي تعبّر عنها مقولة مارتن لوثر كنج الخالدة "الظلم في أي مكان تهديد للعدالة في كل مكان".
النظرة المادية للأشياء والافتقار إلى تخيل عواقبها مشكلة قد تكون قاتلة. لعل من أبرع من جسدوا هذا المعنى الكاتب الأمريكي جاك لندن في قصته القصيرة (To Build a Fire) التي تصف بطل القصة الذي قرر أن يتحدى قوانين الطبيعة وخرج للتنقيب عن الذهب في درجة حرارة بلغت الخمسين تحت الصفر حتى مات متجمداً في الصقيع بأن:
مشكلته كانت في الافتقار الى التخيّل. كان سريعاً ومحتاطاً فيما يخص أمور الحياة، لكن اهتمامه كان منصباً فقط على الأشياء دون الغوص في المعاني الكامنة وراءها. خمسون درجة تحت الصفر تعني ثمانين درجة من الصقيع. لكن هذه الحقيقة لم تترك لديه سوى انطباع وحيد هو أن الجو بارد وغير مريح. لم تحثه على التأمل في ضعفه كونه مخلوق يتأثر بدرجات الحرارة، وإلى كون الإنسان بشكل عام مخلوق ضعيف لا يستطيع العيش إلا في حدود معينة من الحرارة والبرودة. الافتقار إلى الخيال منعه من التدبر فيما وراء الطبيعة ومعنى حياة الإنسان. خمسون درجة مئوية تحت الصفر لم تعنِ له سوى قرصة صقيع مؤذية يمكن مواجهتها ببعض الأدوات كقفازات اليدين، وواقيات الأذن، وأحذية دافئة من الفراء، وجوارب سميكة. خمسون درجة تحت الصفر كانت تعني له على وجه التحديد خمسين درجة تحت الصفر فقط. لم يتخيّل أنها قد تكون أكبر من الأفكار التي في رأسه.
هكذا نعاني نحن البدون في تعاملنا مع المتناقضين. هم فقط ينظرون إلى الأشياء دون التفكير في معانيها. يقيسون الإنسان لا بقيمته المطلقة بذاته كونه إنساناً، بل بما (لا) يملكه من مستندات نتيجة تصنيفات لم تقم على أسس عادلة أو حتى منطقية. لا يفهم الكثير من السياسيين والعامة من المواطنين الكويتيين من وثيقة الجنسية سوى أنها تميزهم عن الآخرين. يبدو أنهم عاجزين عن تخيل أنهم قد يفقدون هذه الوثيقة، أو أنها قد تفقد قيمتها يوماً من الأيام، فيفقدون هم بالتالي قيمتهم التي يحصرونها بامتلاكهم المادّيات لا بكونهم بشراً لهم الحق فيما يمكنهم وأطفالهم من الوصول إلى حياة كريمة مستقرة.
خرج ريان من حفرة البئر، وبقي أطفال البدون فيها! لقد فات الأوان في محاولة إنقاذ ريّان. ولكن ماذا عن أطفال البدون؟ أليس هناك من ينقذهم قبل فوات الأوان؟ أم أن البدون ليسوا كغيرهم من البشر، يتأثرون ويؤثرون؟ متى يدرك المشتركون في ظلم البدون وتجاهل معاناتهم تحت ذريعة "الهوية الوطنية" أن عاقبة ظلم واضطهاد وتهجير الآلاف من الناس لن تكون سعيدة أبداً؟ متى يفيقون إلى أنهم لن يفلتوا من عدالة القوانين السماوية والأخلاقية، كما أنه من المحتمل جداً أنهم لن يفلتوا من عدالة القوانين الوضعية؟

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد