dark_mode
  • السبت ٢٧ / أبريل / ٢٠٢٤
رحمة منتظرة – نفله الحربش

رحمة منتظرة – نفله الحربش

 2007 ديسمبر 
وقفتْ ككل يوم مضى من هذا الشهر بين مبنى محول الكهرباء وسور المدرسة. البرد قارس. فأخذت تفرك راحتيها تارة وتقفز منتفضة في مكانها تارةً أخرى.. يال هذا البرد!!!. ومن خلف الأسوار بدأت تتابع طابور الصباح: السلام الوطني.. جاءها صوت حصة وهي تحيي العلم، ثم آيات من القرآن الكريم بصوت عائشة.
"زميلاتي الطالبات مدرساتي العزيزات".. هكذا بدأت تهاني كلمة الصباح.. تمتمت: تهاني كُلي رجاء أن لا تطيلي!!!
والآن مع تكريم مديرة المدرسة للمعلمات المشرفات والطالبات الفائزات بمسابقة اللغة العربية...
 هتفت: یااااالله.. اليوم يوم التكريم!!!
استمرت عائشة: سيتم تكريم رئيسة قسم اللغة العربية ومعلمات القسم المشرفات على المسابقة.
سكنت في هذه اللحظات تستمع لأسماء معلماتها.. تتحمس وتشارك في التصفيق.
بعد تكريم المعلمات صدح صوت معلمة الإذاعة بحماس: والآن مع تكريم الطالبات الفائزات بمسابقة التوجيه العام للغة العربية في وزارة التربية وذلك عن مهارة كتابة القصة ومهارة الإلقاء للمرحلة الابتدائية، وقد فازت بالمركز الأول.. الطالبة: حسناء أحمد عبد الله من صف خامسة أول.. حيوووووهاااا.
انهمرت دموعها بعد أن سمعت اسمها يُنادى عبر مكبرات الصوت ويتبعه تصفيق حار مدوٍ. احتاجت في هذه اللحظة لحضن يضمها ويد تمسح على رأسها وأن تسمع عبارات مباركة تزيد من بهجة الفوز في قلبها، ودب شوق عاصف في داخلها لرائحة أمها!!!
تكرر النداء باسمها: الطالبة حسناء أحمد عبد الله. تبعه تصفيق أقل حرارة كتصفيق المتأهب المنتظر. وبصوت غير واضح كالهمس علقت إحدى المعلمات على النداء: "غير موجودة"!
مشاعر مضطربة كثيرة أكبر من قدرة احتمالها في هذا الوضع أقعدتها القرفصاء واضعة كفيها على وجهها.. ثم بدأت بالنحيب .شعرت بخطوات تقترب باتجاهها: إيه يا بنتي !. إنتي أعده هنا ليه؟!
رفعت رأسها فإذا حارس المدرسة بقامته الفارعة ورأسه الذي اكتسى ببياض شعره وقد حال الصندوق الذي يحمله من أن ترى وجهه كاملاً من موضع جلوسها.. فوقفت وقد بدا احمرار عينيها وأرنبة أنفها واضحاً تُخالطه زرقة في شفتيها وشحمتي أذنيها من أثر البرد. تأثر الـحـارسُ من منظرها.. فوضع الصندوق على الأرض وأمسك بكتفيها بعد أن جلس على ركبتيه: مالك يا بنتي؟! حد عملك حاجه ؟. مدخلتيش المدرسة ليه؟ 
لم تستطع رفع نظرها تجاهه ظلت تنظر وهي ترتجف من البرد إلى الأرض ودموعها مستمرة في الانهمار.
طمأنها: متخفيش.. حدخل معاكِ للإدارة، استني دقيقة أحط الصندوق مكانه.
صناديق من الكرتون ركنها أبو محمد بجانب حاوية النفايات، مملوءة بالأوراق المهملة، يقدمها لشركة إعادة التدوير فيحصل على بعض علب المناديل الورقية المجانية أو على كراتين جديدة قوية يستخدمها لشحن بعض المشتريات لأهله في مصر.
لم تنتظره.. فقد انتهى الطابور في هذه الأثناء وهذا ما  كانت تنتظر حدوثه لتدخل إلى المدرسة.
بعد أن اجتازت البوابة أخذ نظرها يدور في أبعاد المكان محاولة اختيار مسار لا يراها فيه أحد.. أخذت تمشي باتجاه غرفة الأخصائية الاجتماعية.. ها هي الأخصائية مها تنتظرها كالعادة وتمد يدها بورقة إذن الدخول للفصل وهي تشير بها أن أسرعي قبل أن يراك أحد.. التقطت الورقة وهي تنظر لأبلة مها نظرة ملؤها العرفان.. ثم انطلقت مسرعة باتجاه الفصل.. إلا أن صوتًا أجشًا عالٍ صرخ بها من بعيد: قفي!!!
كانت سهام معلمة التربية البدنية والمسؤولة عن النظام في المدرسة، والمفتش الأول المعتمد من قبل إدارة المدرسة للتنظيم وللترتيب والكشف عن المخالفات في طابور الصباح.
كادت أنفاسها المتسارعة أن تقف فجأة وزاد ذلك من رعشتها، فتسمرت واقفة ولم تلتفت.. أغمضت عينيها بشدة وغابت في دوامة نفسها تبحث عما يصلب طولها ويمكنها من الصمود أمام التوبيخ القادم:"يا سلاااام عليكي! " قالتها كمن شهد لصاً متلبساً بسرقته !!!، وأكملت: متأخرة ليه يا روح أمك ؟! وإيه دااا؟!! حتفضلي لبسه المريول الصيفي لحد إمتى؟! إتكلمنا في الموضوع دا ميت مرة!
ومع كل كلمة كان علو صوتها يزداد وكلماتها تزداد حدة ممسكة بإصبعيها طرف كتف المريول!
أكمل الخوف ما بدأه برد اليوم، ليفقدها القدرة على التحمل، فشعرت بحالة أشبه بالإغماء ارتخت على أثرها كل عضلات جسمها وعلا صوت اصطكاك أسنانها بارتعاشة فكها.. وإذا بدفء يغمر قدميها أشعرها بالخزي وأيقظها من هذه النوبة لتصرخ باكية صرخة أسرعت بأبلة مها نحوها.. وارتفع صوت سهام صارخة: إيه الأرف دا!؟ 
وصلت مها واحتضنت حسناء وهي ترمق سهام بنظرة الكاره الغاضب: سهام.. حسناء حالة خاصة وأنت تعلمين بمرض والدتها.. سأشكوك إلى الإدارة هذه المرة.
فردت سهام: كيف سنطبق النظام وانتو مش لائيين حل للحالات دي؟!
أجابتها مها: النظام وضع لمصلحة الطالبات لا لأذيتهن وجرح مشاعرهن.
لم يعجب سهام هذا الرد فابتعدت وهي تردد: نظام !! مفيش نظام إذا المدرسة كلها حالات خاصة!!
أمسكت مها يد حسناء وأخذت تسير معها باتجاه غرفتها تحدثها لتطمئنها: حبيبتي حسناء.. لا تخافين سنتصل بأمك ونستأذنها أن أوفر أنا لك ملابس مدرسية شتوية.. أنا أعلم أنها مريضة ولا تستطيع أن تقوم هي بالتسوق لكم.. ثم توقفت وكأنها تبحث عن الكلمات المناسبة، وأكملت: لا تخجلي حبيبتي فهذه المواقف يمكن أن تحدث لأي شخص.. والآن كي تتمكني من إكمال اليوم الدراسي.. أخبريني بمن يمكن أن أتصل به ليجلب لك غياراً من المنزل؟!
انتظرت لحظات لتسمع الإجابة.. لكن حسناء ظلت صامتة، وفجأة أفلتت يدها من يد مها وانطلقت تجري باتجاه باب المدرسة إلى أن تجاوزته خارجة منه ومها تجري خلفها وتنادي أبو محمد الذي استغرق قيامه من خلف مكتبه وقتاً سمح لحسناء بأن تبتعد كفاية فلم يلحظ أبو محمد الاتجاه الذي جرت فيه.. فعاد وقد خيبت لياقته البدنية ظن مها بأن يعود ومعه حسناء!
توجهت مها لإدارة المدرسة تخبرهم بما حصل محاولة أخذ الإذن بالذهاب إلى منزل حسناء بعد أن تأخذ العنوان من ملف الطالبة.. إلا أن طلبها وجد الرفض من مديرة المدرسة التزاما بلوائح النظام والقوانين!!! وصلت حسناء إلى منزلها لاهثة.. دخلت وأغلقت خلفها الباب الحديدي بقوة فضج البيت الصغير بصوته للحظات.. أسندت ظهرها على الباب باكية.. ثم نزعت ذراعي حقيبتها لتنزلق من على ظهرها وتسقط في بركة ماء خلفها المطر المتسرب إلى المنزل منذ يومين، دخلت تجر خطاها المثقلة ببؤس لا يُحتمل.. ثم نزعت حذاءها المبتل ورمته أرضاً واندست تحت ألحفة مطوية على قطعة إسفنج من جلسة أرضية حُولت لسرير !!استسلمت للنوم بعد أن أعياها التعب.. ثم استيقظت بعد ساعات لتسرع في تغيير ملابسها فلبست عباءة شتوية طويلة قامت بلملمة ذيلها عن الأرض وقد غطت أكمامها يديها بالكامل.. فأخذت ترفع يدها حينًا وتعود لتلتقط الذيل حينًا آخر.. وكأنها قد تعودت على لبسها ولم  يعوقها ذلك  من أن تكمل طريقها لتخرج خارج المنزل باتجاه مدرسة أخيها عبد الله الطالب في الصف الثالث الابتدائي. وصلت إلى المدرسة بعد أن مرت نصف ساعة على موعد انصراف الطلبة.. وإذا بعبد الله يقبل عليها مسرعاً مبتسماً فأخذت حقيبته تحملها عنه.. قبل أن يبادرها فرحاً.. اليوم أعطتني معلمة العلوم تفاحًا ووجبات صحية بعد دراسة الهرم الغذائي. ابتسمت فرحة بهذا الخبر.. وعندما تجاوزا نصف المسافة للمنزل فتحا الحقيبة وأخرجا تفاحتين من علبة الوجبات وأخذا يقضمانها وابتسامة (بشر) تعلو وجهيهما! اقتربا من المنزل فشاهدت حسناء جارتهم تقف مع سيدة أخرى أمام سيارة مركونة على رصيف المنزل.. لاحظت أن الجارة تتحدث وهي تكفكف دمعها براحتيها كلما توقفت عن الحديث.. أما السيدة التي أمامها فظلت ممسكة بمنديل ورقي بالقرب من وجهها تمسح به عينيها.. "أبلة مها !. إنها أبلة مها !!".. قالتها حسناء لأخيها بعد أن تبينت ملامحها.. أسرعت حسناء نحوها وعندما اقتربت.. سمعت صوت الجارة يئن وهي تقول: "يا عيني عينكم". اندفعت مها وضمت حسناء وأخذت تبكي بحرقة: لماذا لم تخبريني يا حسناء؟. لماذا ؟! ألم أخبرك أنني سأكون بجانبك دائماً؟!!
احتضنتها حسناء أكثر ثم رفعت رأسها تنظر في عينيها مستجمعة بعض أنفاسها المتقطعة لتقول:
"أبلة مها أنا لا أعرف أبي!، ولا أعرف بلد أبي.. أمي كانت حياتي ومستقبلي .والآن أنا "بدون" أم، وأخاف من بعد موتها أن أصبح: "بدون" بيت.. "بدون" وطن.
هنا عادت مها لتضم حسناء وعبد الله باكية ثم قالت بنبرة الحاني المتألم :ونحن إن رضينا لكم بهذا العيش فسنكون... "بدون" رحمة.



* صورة المقال تصوير هديل أبو قريص

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد