dark_mode
  • الخميس ٢٥ / أبريل / ٢٠٢٤
البدون واليأس المكتسب - أحمد السويط

البدون واليأس المكتسب - أحمد السويط


’هل من الممكن أن يتعلم الإنسان اليأس، وكيف يحدث ذلك؟‘

من هذين السؤالين انطلقت دراسات في علم النفس حول ظاهرة اليأس المكتسب‘، وهي حالة من العجز عن مقاومة الأذى أو تجنّبه حتى عند توافر الفرص، يربطها بعض علماء الاجتماع بأزمة الهوية وحالة اليأس التي تصيب الأفراد والجماعات نتيجة تعرضهم لظروف قهرية بشكل مستمر، كما هي الحال مع عديمي الجنسية (الكويتيين) البدون.

"اليأس المكتسب" من فرضية إلى تجربة علمية

تضمنت الأبحاث حول ظاهرة اليأس المكتسب تجارب علمية على الحيوانات والبشر على حدٍ سواء. في البداية، قام عالما النفس مارتن سيليجمان وجيمس أوفرمير عام 1967 بدراسة تأثير الظروف الخارجة عن السيطرة من خلال تجربة آثار صدمة قهرية معينة على طبيعة الاستجابة لصدمات مماثلة لاحقًا على عدد من الكلاب في مرحلتين. في المرحلة الأولى من التجربة، تم تقسيم الكلاب إلى ثلاث مجموعات (أ، ب، جـ)، ووضع كل منها مقيدا في حجرة أرضيتها معدنية، وكانت أرضية كل من الحجرتين الأولى والثانية موصولة بتيار كهربائي، في حين لم تكن أرضية الحجرة الثالثة موصولة بالتيار، كما أن الحجرة الأولى كان فيها لوح خشبي يمكن من خلال الضغط عليه قطع التيار الكهربائي عن الحجرتين الأولى والثانية.

نتائج التجربة

في المرحلة الأولى من التجربة استجاب أعضاء المجموعة (أ) للصدمة الكهربائية بالمقاومة، وقاموا بقطع التيار الكهربائي عن طريق الضغط على اللوح الخشبي. في الوقت ذاته لم يتمكن أعضاء المجموعة (ب) من المقاومة، وظلوا يتعرّضون للصدمة الكهربائية باستسلام حتى انقطع التيار بفعل خارج عن إرادتهم. أمّا أعضاء المجموعة (جـ) فلم يتعرضوا لأي صدمة كهربائية لأن التيار لم يكن موصولاً بأرضية حجرتهم المعدنية. وفي المرحلة الثانية من التجربة تم وضع المجموعات الثلاثة في نفس الحجرات، ولكن الكلاب لم تكن مقيدة هذه المرة. وعند تعريض أعضاء المجموعات الثلاثة للصدمة الكهربائية قام أعضاء المجموعة (أ) والمجموعة (جـ) بالقفز من الأرضية المكهربة إلى الأرضية الآمنة بسرعة، بينما استسلم أعضاء المجموعة (ب) وبقوا في مكانهم دون مقاومة للصدمة الكهربائية أو محاولة تجنبها على الرغم من أنهم لم يكونوا مقيدين.

وبتكرار التجربة توصل الباحثون إلى أن أعضاء المجموعتين (أ) و (جـ) تعلموا (تطوير) سلوك مقاومة وتجنّب الأذى، بينما اكتسب أعضاء المجموعة (ب) اليأس وتعلموا العجز حتى عن المحاولة. وبناءً على نتائج هذه التجربة تمت لاحقا دراسة تأثير الظروف القهرية السابقة على حيوانات أخرى كالقطط والأسماك والفئران من حيث قدرتها على الاستجابة، وأخيراً تمت دراسة تأثيرها على الإنسان، حيث قام واضع فرضية اليأس المكتسب (مارتن سيليجمان) بالتعاون مع عالم النفس دونالد هيروتو بدراسة الظاهرة على مجموعة من الأفراد، وتوصل الباحثان من خلال تجربة قاما بها عام 1975 إلى نتائج مشابهة لما أسفرت عنه التجارب التي قام بها عدد من العلماء منذ عام 1967.

تجربة اليأس المكتسب عند الإنسان

تعتبر نتائج تجربة سيليجمان وهيروتو عام 1975 تمثيلية -أي قابلة للتعميم، وتقدم نظيرًا بشريًا للدراسات التي تم إجراؤها سابقاً على الحيوانات. وقد تضمّنت التجربة البشرية دراسة ظاهرة اليأس المكتسب على متطوعين من طلاب جامعيين تم توزيعهم على ثلاث مجموعات (أ، ب، جـ). في المرحة الأولى من التجربة تم تعريض أفراد المجموعة (أ) إلى ضوضاء شديدة أمكنهم السيطرة عليها عن طريق الضغط على أزرار تحكم كانت متوافرة أمامهم، بينما تم تعريض المجموعة (ب) إلى نفس الضوضاء مع عدم إتاحة أزرار التحكم لهم ولمدّة معينة انتهت بشكل مستقل عن إرادة الأشخاص. أمّا أعضاء المجموعة (جـ) فلم يتم تعريضهم لأي ضوضاء. أمّا في المرحلة الثانية من التجربة فقد تم تسليط الضوضاء على أعضاء المجموعات الثلاث مع توفير أزرار التحكم أمامهم جميعًا، وفي النهاية كانت نتائج تجربة اليأس المكتسب على البشر مشابهة بشكل لافت للنظر لما توصل له الباحثون في تجاربهم على الحيوانات.

وجد سيليجمان وهيروتو في المرحلة الثانية من التجربة أن كلّا من أعضاء المجموعتين (أ) و(جـ) قد تمكنوا من الاستجابة والسيطرة على الوضع بسرعة، في حين عجز أعضاء المجموعة (ب) عن المحاولة واكتفوا بالاستسلام والاستماع للضوضاء بشكل سلبي حتى توقفت بفعل خارج عن إرادتهم. وبمقارنة نتائج المرحلتين الأولى والثانية من التجربة كان عامل الفشل في السيطرة على الضوضاء في المرحلة الأولى مهمًا، حيث أعطى تفسيرًا مفاده أن اليأس حالة يمكن للإنسان أن يكتسبها نتيجة تجارب فشل في ظروف خارجة عن سيطرته، ويبقى ذلك اليأس ملازمًا له حتى بعد زوال الظروف القهرية أو توافر فرص جديدة للتخلص منها. والمثير في نتائج التجربة أنها تكشف أهمّية الجهد الذاتي، وكيف أن الإنسان (أو الكائن الحي بشكل عام) إذا لم يتعلم الاستجابة ودفع الأذى عن نفسه بنفسه، فإنه لن يتمكن من الاستفادة من العوامل المساعدة. ذلك لأن اليأس ينتج عن فقدان الوسيلة والأمل في القدرة على التغلب على ظروف خارجة عن السيطرة، ولن يتخلص الإنسان من هذه الحالة إلّا بإدراكه استحالة فقدانه السيطرة تمامًا، وأن ما يلزمه هو فهم ما يحتاجه لمقاومة الأذى وتجنّبه وتطويره بنفسه وليس بالاعتماد على العوامل الخارجية بشكل كامل.

اليأس المكتسب والهوية الاجتماعية

لم يقتصر البحث حول ظاهرة اليأس المكتسب على مجال علم النفس، حيث يرى بعض علماء الاجتماع، كالأمريكي هاريسون وايت في كتابه ’الهوية والتحكم‘ الصادر عام 2008، أن اليأس المكتسب يتجاوز كونه حالة نفسية، بل هو سلوك اجتماعي ينتج غالبًا عن فشل ثقافة أو هوية اجتماعية معينة في تحقيق أهدافها السياسية المرجوة، وينعكس هذا السلوك على تصورات القدرة الجماعية للمنتمين إلى تلك الهوية إلى درجة قد تصل إلى حالة العجز. الفكرة الأساسية التي يقدمها وايت في كتابه هي أن الفرد جزء لا يتجزأ من شبكات متعددة من العلاقات الاجتماعية، وما نعتقد أنه هويتنا الجمعية يتأثر بما تمر به مكونات الشبكات المكوّنة لعلاقاتنا الاجتماعية، وحيث أن ما يعانيه الأفراد ينعكس على الجماعات والمؤسسات المرتبطة بهم، فإن عجز الهويات الفردية عن السيطرة على ظروف حياتها سيؤدي بشكل أو بآخر إلى عجز الجماعات عن التحرر من الظروف القهرية المفروضة عليها.

الخلاصة

نحن لسنا عاجزين ولكننا نرث أو نتعلم العجز. لا شك أن الهويات التي تفرض علينا أن نعيش بدونًا أو ’مقيمين بصورة غير قانونية‘ أو لاجئين في الشتات من شأنها أن تقيّد حركتنا وتحرمنا من الأدوات التي نحتاجها لتحقيق أهدافنا وأحلامنا، لكن هذا لا يعني أننا يجب أن نستسلم بأي شكل من الأشكال. ما أستفيده من التمعّن في ظاهرة اليأس المكتسب هو أن الأوضاع التي نعيشها تنتج عن شبكات من العوامل النفسية والاجتماعية المرتبطة فيما بينها، وعلى الرغم من أن جُلَ ما نعيشه من بؤس سببه ظروف خارجة عن سيطرتنا، لكن هذا لا يعفينا من مسؤولية تغيير مواقفنا السلبية تجاه أنفسنا وبعضنا البعض فيما يخص قضايانا الشخصية والمشتركة إذا ما أردنا التخلص من (أو على الأقل مقاومة) شعورنا باليأس والعجز. لن نستطيع تغيير بيئتنا الصحراوية ذات المناخ الجاف القاسي، ولست متفائلًا بصحوة ضمير سياستنا التي يعكس إصرارها على مواقفها المؤذية بحقنا أنها تعاني من نوع مختلف من العجز المكتسب، ألا وهو العجز عن ممارسة الحياة المدنية وتطبيق العدالة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان الضعيف سياسيًا. ما يمكننا ويجب علينا العمل على تغييره إذاً هو أنفسنا. نعم، يجب أن ننهض ولا نتوقف عن فهم أنفسنا وتطوير أدواتنا حتى نتمكن من قلب الطاولة على كل من يحاول أن يوصلنا إلى حالة اليأس. لا بد أن نفكك ونبطل مفعول المنظومات التي تدفعنا إلى الشعور باليأس، ولا بد أن نعمل على دفع الذين يحاولون إخضاعنا بقيود ومخاوف وهمية إلى أن يتعلموا اليأس من محاولاتهم البائسة.

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد