dark_mode
  • الجمعة ١٩ / أبريل / ٢٠٢٤
الحقيقة انتحارٌ جماعي - لولوه المسعود

الحقيقة انتحارٌ جماعي - لولوه المسعود

        بتلات الزهور المتناثرة في الشارع بعد حادث الدهس، ثمانية دنانير -تعادل (26.46) دولارًا أمريكيًا- في جيبه، كان يأمل أن يرسم بها ابتسامة والديه، بعد أن فُصل والده عن العمل.

بائع الزهور، الطفل (جرّاح) الذي كان عليه أن يضع طفولته جانباً، أن يكبر عشر سنوات أو أكثر، أن يشهد -مبكّرًا- الظلم، قهر الرجال، العجز، والشتات، حتى بعد وفاته، وفي خوض آلام والديه وألم الفقد والحسرة، رُفض إصدار شهادة الوفاة بكل قسوة، ولم تُصدر إلا بواسطة!! يا للعار!

يختبئ الفاسدون خلف لقب (دولة الإنسانية) للتستر على الحقيقة، وجميعنا يعلم بأن الحقيقة خطرة جدًا، قال (جورج أورويل) في (الطريق إلى رصيف ويجان البحري)، الصادر في عام (1937): "نحن نعيش في عالمٍ ليس فيه حر، وقلَّما يوجد فيه شخص آمن، ومن شبه المستحيل أن تكون صادقًا فيه وتظلَّ حيًا"، ويقول كذلك عن الحقيقة: "كان قول الحقيقة واجبًا أخلاقيًا وانتحارًا جماعيًا في الوقت نفسه".

كلما شرعت في الكتابة عن قضيتنا الأولى محلياً وهي قضية البدون، لا أملك إلا أن أشعر بألم في معدتي، بخجل من نفسي، من محيطي، من المرفهين من أصحاب النداءات الزائفة كـ (الحفاظ على الهوية الوطنية/ كذبة الجناسي الممزقة، المشابهة جداً لكذبة بيع الفلسطينيين أراضيهم/ والشعارات المكررة، مثل: خير الكويت وايد). 

الحقيقة أول مبادئي، وهي ما يجعلني أعيش، أقاوم، أبكي، بل وأتنفس، لقد سئمنا المزيفين، سئمنا أن يطالب الواحد منا بإنصاف أهل بلدنا من (الكويتيين البدون) بأبسط الحقوق البشرية، حق الطفل، حق التعليم، حق العمل، حق التملك، حق السفر إلى بلاد الله الواسعة، حق الكرامة والانتماء، وغيرها الكثير. 

بإيجاز من هم (الكويتيون البدون)؟

(البدون) مصطلح يعود أصله إلى أهل البادية الذين لم يحصلوا على الجنسية الكويتية بعد استقلال الكويت عن بريطانيا في العام (١٩٦١م)، إما لعدم استطاعة، وإما لأنهم لم يطلبوها حينها، كان بعض رجال البدو من كبار السن يقول: "أنا لا أحتاج ورقة تثبت أني ابن هذا البلد"، لذا فإننا نجد أبناء عمومة، أحدهم يحمل الجنسية الكويتية والآخر (بدون).

تغيرت تسميتهم بحسب القانون الكويتي خلال الفترة الممتدة من الاستقلال وحتى (١٩٧٩م)، فبدأوا بتسميتهم بـ (غير كويتي)، ثم (بدون جنسية)، وأخيرًا (مقيم بصورة غير قانونية).

خطورة التلاعب بهذه المسميات والألقاب:

تتعدى الخطورة عن كونها مصطلحات فقط، بل فيها خطورة المنفى والشتات، أو كما أطلق عليها أحد الأصدقاء (إعدام مدني)، حتى إن الجمعيات الخيرية في الكويت لا تستطيع صرف المساعدات إلا باستخدامهم لمصطلح (مقيم بصورة غير قانونية).

أجريتُ بعض الحوارات مع المكافحين والصامدين من الأخوات والأخوة البدون، سأضع بعض كلماتهم (بتصرّف مني لأقرّب لكم الصورة وحجم الألم)، علّها تلامسكم، لعلّ صمت أحدكم يُكسر، ولعلّ الأنظار تلتفت. مع ملاحظة أني سأخفي أسماءهم حفاظاً على خصوصياتهم، فهذا أقل ما يمكن فعله.

تقول ابنة القضية: "نحن نعيش نفس اليوم كل يوم، تتكرر الأيام دون حلم، دون مستقبل، دون أمل، وتتكرر المعاناة والآلام وطمس الهوية".

يقول (م)، شاب بدون من أم كويتية: "عندما كنت بعمر بائع الزهور (جرّاح) رحمه الله، كنت مريضاً للغاية، فأخذتني أمي لمستوصف المنطقة، ولم نكن نملك بطاقة أمنية، فاستخدمت أمي جواز المادة (١٧)، جواز رماديّ باهت، كما هي الحياة، يُصرف لغير محددي الجنسية في الكويت بشروط خاصة، للدراسة، والعمل وغيره". يُكمل (م) قائلاً: "إلا أن كاتب المستوصف رفض إدخالي، وما زلت أذكر دموع أمي التي تبكي بحرقة في مكتب مدير المستشفى قائلة: دخلوا ولدي، أنا كويتية، ليش جذي أنظلم بديرتي!"، حينها كَبُر الطفل الذي فيَّ ألف سنة، قُتلت طفولتي، عرفت معنى كلمة بدون".

 

يقول (ب)، شاب من مواليد الثمانينات: "عندما كنت في المرحلة الثانوية، داهمت الشباب البدون فكرة يائسة بأن التعليم لن يجدي نفعاً، وذلك لأنهم شهدوا على من سبقوهم الذين لم تنفعهم الشهادة. فقد أقيمت علينا حرباً شرسة قي تعليمنا وفي وظائفنا، لدرجة أن 85% من شباب وشابات البدون عاطلين عن العمل. ناهيك عن الفكرة المرعبة المزروعة لدى شباب وشابات البدون، بأن من يطرح رأيه أو يدافع عن قضيته، سيتعرض للمساءلة القانونية وذلك لأسباب "التعتيم الإعلامي".

 

تقول (أ): "لقد كنت صاحبة المعدل الأعلى دراسيًا في صفوف الثانوية العامة، لكني حُرمت من استكمال دراستي، تسربت أحلامي من بين أصابعي كالرمال، وعبثاً أحاول جمعها، مضى الجميع في حياتهم، كبروا، توظفوا، تزوجوا وأنجبوا. وأنا (عالقة) في نفق لا نهاية له ولا بداية، أظلمٌ لا مخرج ولا مدخل ولا مفر، فلا نور فيه، لم أصبح الطبيبة التي كنت أحلم، فأنا الآن أشبه بلا أحد، أناضل في قضية خاسرة، غير مسموح لي حتى أن أستخدم القلم، وما زلت أكافح رغم عيشي مع اكتئابي الإكلينيكي المزمن، والقهر في عيون أمي، وجوف أبي"، وتكمل: "أصبحت الكتب جامعتي، وأصبح الكُتّاب أساتذتي، إنني أُعلِّم نفسي بنفسي، لكن بلا جدوى، فلا شيء يُخفف حجم الألم والحرمان".

يقول أحد الأصدقاء من البدون حين سألته عما شعر به فور سماعه عن الطفل بائع الورد، وعن المخاوف التي انتابته: "لم أستغرب صراحةً، فقد بلغ البؤس أقصى ما بلغ، أما عن مخاوفي فهي وضعي كإنسان، ووضع مجتمع البدون بالكامل، حتى صرنا نعاني من الداخل، تحت الحرب النفسية والعجز والضغوطات، فتولدت العنصرية حتى بين البدون أنفسهم، أملك إحصاء (٦٥)، والدي عسكري، أمي كويتية، أمتلك شهادة علمية.. وغيرها)، يرجع ذلك لما تم غرسه من ثمرات العنصرية والتفرقة التي تم تغذيتها على مدى السنوات الماضية إلى يومنا، حتى الأقرباء داخل الأسرة الواحدة يخجلون منا وينكروننا أمام المجتمع كأهلٍ لهم".

فهمتك، فاليأس الآن وصل إلى أقصى مراحله لدرجة أنه أصبحت هناك ألفة مع الظلم والموت فهي حتماً أسهل من العيش في حياة كهذه.

"إنني أتناول ثلاثة أنواع من أدوية الاكتئاب، ولا أنام إلا ساعتين إلى ثلاث".

"نعم أمتلك راتباً، لكن ما الجدوى؟ حتى بطاقتي البنكية ليست باسمي، ولا أستطيع فتح مشروع تجاري، ولا يُسمح لي بالسفر، ولا أستطيع الاقتراض من البنوك. نعم، أستطيع الزواج عند مأذون، لكن ما الجدوى وأنا لا أستطيع أن أنجب؟ ويرجع ذلك للظروف المادية والمجتمعية، وأيضًا لأنني لا أستطيع استخراج شهادات ميلاد لأطفالي".

 

أين مُدعيات النسوية عن نساء البدون؟!

"كونك امرأة وبدون، فهذا هو الجحيم بعينه".

"لقد كانت المرأة البدون في الستينات ربة منزل وأمية لعدم امتلاك الأسرة للمال، فقد كان الأولى أن يتوظف الرجل ويعيل عائلته، لكن الحياة توقفت بعد ذلك، أصبحت النساء هن الموظفات والمعيلات".

"توقفت الحياة عند المرأة البدون منذ الستينات إلى الآن."

 

تذكروا أسماءهم: (المنتحرون من البدون.. المقتولون على أيدي من ظلموهم)

-         يعقوب مفرح عبد الله، ٢٦ عاما،ً يعمل في بيع الخضار، كانت البلدية تطارده في مصدر رزقه، وكان يسكن في خيمة مع أخيه، انتحر على الشجرة بعد أن قتله الظلم والعجز في ٢٨/٣/٢٠٢١.

-         الطفل عايد مدعث، ٨/٧/٢٠١٩.

-         بدر مرسال، المنتحر على الأرجوحة في ٤/١١/٢٠١٩.

-         عبد الله ناصر الزهيري، ٧/١٢/٢٠٢٠.

-         طلال فهد جابر، ٢٨/١٢/٢٠٢٠.

-         الطفل علي خالد الشمري، ٢٤/٢/٢٠٢١.

-         زيد العصيمي، رب أسرة عاش في خيمة في البر، انتحر بسبب العجز والبطالة في ٤/١١/٢٠١٩.

 

 

كتب في (أدب البدون):

1-                      رواية (ظل القضبان)، لـ (علي التميمي).

2-                      (العشاء الأخير)، لـ (عيسى الحسيني).

3-                      (المغيسل)، لـ (موضي رحال).

4-                      (شغف)، لـ زينب بهمن.

5-                      (سماء مقلوبة) و (ثلاثية الجهراء: رواية الصهد - رواية كلاسيكا - رواية المسطر) للأديب: (ناصر الظفيري)، رحمه الله.

6-                      (ثلاثة من الشمال)، لـ (خالد تركي).

7-                      رواية (صفيح)، لـ (هنادي الشمري).

8-                      (ذكريات ضالة)، لـ (عبد الله البصيص).

9-                      (مقبرة الغرباء) لصاحب القلم باسم مستعار: (جهاد محمد).

10-             رواية (على قيد الحياة) لـ (مناحي الشريف).

11-             كتاب أكاديمي حيادي يحمل الكثير من الإحصائيات التي قامت بها الدكتورة الفرنسية (Claire Beaugrand) في كتابها وهو رسالتها في الدكتوراه (Stateless in The Gulf )، عِلماً بأنها أتت إلى الكويت وعاشت معهم وتعلمت اللغة العربية خصوصاً ليكون البحث أكثر دقة.

أبيات شعرية للشاعر/ مناحي الشريف:

‏للهِ نشكو كُل قاسٍ أغبرا

في ظُلمِ طائفة البدونِ تجبرا 

للهِ نشكو والقلوبُ تمزقت

فاللؤم هللَ في الشتات وكبّرا 

قد قسموا الأنامِ حسب مزاجهم

والطفلُ في بحرِ الأماني تكدّرا 

فالصُبحُ لائذ في الظلامِ كأنهُ

يبكي لعدلٍ قد أتاهُ وأدبرا

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد