dark_mode
  • الجمعة ٢٩ / مارس / ٢٠٢٤
حراك البدون ودور اللغة في بناء الهوية ومقاومة الهيمنة – أحمد السويط

حراك البدون ودور اللغة في بناء الهوية ومقاومة الهيمنة – أحمد السويط

هذا جزء من مقدّمة رسالة الماجستير التي أكملت كتابتها في فترة كنت فيها بلا مأوى في العاصمة البريطانية لندن، وكانت الرسالة عن حراك البدون السياسي كنموذج يجسد دور اللغة والعلاقة الجوهرية بين الزمان والمكان في بناء الهوية ومقاومة ممارسات الهيمنة.

كان ذلك في سبتمبر عام 2019 في ميدان شيلدون قرب محطة قطار بادينجتون المحاطة ببنايات فخمة شاهقة وكافيهات ومطاعم عائمة في النهر. لكن لم يشغلني في ذلك المكان سوى بعض الذكريات المرتبطة بيوم ذهابي إلى وزارة الداخلية البريطانية حيث تقدمت بطلب اللجوء في المملكة المتحدة وحصلت على مجموعة من الأوراق التي حددت من سأكون بعد ذلك. كل ورقة تحدثت معي بلهجة مختلفة: الأولى طلبت مني مراجعة إحدى إدارات وزارة الداخلية في مدينة كرويدون كل أسبوعين، والثانية عرضت علي بعض الحوافز في حال قررت العودة إلى وطني طوعاً، أمّا الثالثة فاعتبرتني لا أستحق السكن لأنني مازلت أمتلك 110 جنيهات إسترلينية في بطاقة كنت قد أحضرتها معي من الكويت. لكن من سيؤجر سكناً لشخص لا يملك أي إثبات يدل على هويته سوى أوراق طلب لجوء سياسي؟ جميع الأبواب أُغلقت في وجهي. حتى الجامعة التي كنت ملتحقاً بها لم يكن موظفوها متأكدين مما إذا كان من الممكن لي أن أبدأ دراستي بعد أن تغير وضعي القانوني. كل شيء تغير... حتى وجهي بدا مختلفًا على البطاقة الجديدة التي تلقيتها بدلاً من تصريح الدراسة الخاص بي، فقد بدوت كَسجين أكثر من كوني طالب دراسات عليا. بمجرد تسميتي ’طالب لجوء لا يحق له العمل أو الاستفادة من المال العام‘ تم تحويلي إلى عبء وكيان قابل للمزيد من التحكم، ولعل في هذه بعضا من الآثار المادّية لتوظيف اللغة سياسياً للسيطرة على حياة الإنسان.

في يوم ذهابي للتقديم على اللجوء، وصلت عند الساعة الثامنة صباحاً في منطقة شرق كرويدون. خرجت من محطة القطار مسترشداً بخرائط Google نحو مبنى وزارة الداخلية. لم يكن قد بدأ الدوام الرسمي بعد، لذلك اضطررت إلى الانتظار خارج مبنى وزارة الداخلية مع بعض الوجوه التي بدت بائسةً مثل وجهي. عند الساعة التاسعة بدأ ضباط الأمن بترتيب اصطفافنا لإجراء التفتيش، قبل أن يتم توجيهنا إلى شبّاك لتزويد معلوماتنا الشخصية ثم إلى الجلوس والانتظار. في تلك اللحظات كنت أحسب خطواتي وأقلل من لغة جسدي. لم يُسىء أي من موظفي وزارة الداخلية البريطانية معاملتي، لكن المبنى كان مستفزًا وأثار ذكريات مروعة في ذهني. كان علي أن أذكّر نفسي باستمرار بأنني لم أكن في أحد مباني أمن الدولة في الكويت حيث التقيت بالظلم وجهًا لوجه مرات عديدة. بينما كنت أنتظر موعد مقابلتي، اختلطت علي الذكريات من أزمنة وأمكنة مختلفة ملأتني بشيء واحد ألا وهو... البؤس.

كنت قد تعلمت من تجارب سابقة في الكويت أن بعض أفراد الأجهزة الأمنية يستخدمون وقت الانتظار كأداة للاستفزاز وجعل الشخص أكثر توتراً وعرضة لارتكاب الأخطاء في التحقيق. تذكرت ذلك أثناء انتظاري لموعد مقابلتي، ولكن ما كان يشغل ذهني بالفعل هو ذكريات من طفولتي، وقلق على أطفالي وزوجتي وشقيقاتي ووالدتي وأخي ذي الاحتياجات الخاصة- كنت أتساءل: متى وهل سأتمكن من رؤيتهم مرة أخرى؟

عدما بدأت المقابلة كان علي أن أسرد قصة حياتي. تم سؤالي عن المستشفى الذي ولدت فيه والمدارس التي درست فيها والمناطق التي سكنتها في الكويت، ثم عن دوافع قدومي إلى المملكة المتحدة، فأوضحت أنني أتيت للدراسات العليا ولكن بسبب هويتي ونشاطي في قضية البدون في الكويت تعرضت للاضطهاد ولم أعد أشعر بالأمان وكان علي التقدم بطلب اللجوء. حاولت التفصيل لكن تم مقاطعتي. قال الضابط أن لديه استمارات يجب أن يملأها، وكان علي تقديم سبب واحد محدد للمجيء إلى المملكة المتحدة – ’الدراسة أم اللجوء؟‘ أردت أن أوضح أنه لا يمكن الفصل بين الاثنين حيث أن أهم جوانب معاناتي في وطني هو حرماني من التعليم ومطالبتي به، لكن لم يكن هناك وقت للتوضيح فاخترت ’اللجوء‘ وهذا جلب الكويت إلى غرفة المقابلة مرة أخرى.

استلزم اختياري للجوء أن أسرد الماضي بتفاصيل المستقبل. كان علي أن أصف الأحداث والتواريخ والمعالم التي مررت بها في الماضي لأوضح وجهة نظري وموقفي الحالي، كما كان ذلك الماضي هو من سيحدد حياتي في المستقبل. في تلك الأثناء كان علي اختيار كلماتي بعناية لأنني كنت أعرف أن كل شيء كان يُسجّل ويتم إدخاله في النظام الذي كان يصنع ما سأكون بعد ذلك. التفاصيل التي استرجعتها من الماضي أصبح لها معاني مختلفة، وكنت سخيّا بتقديم الكثير منها على أمل أن أجعل الضابط يفهمني بشكل أفضل. رويت بعض أشكال الاضطهاد التي تعرّضت لها في الكويت منذ ولادتي فيها عام 1984، ودوافع انضمامي إلى حراك الكويتيين البدون منذ عام 2011... لكن تم مقاطعتي مرة أخرى - حيث قال الضابط: ’هذا في المقابلة المفصّلة‘.

خلال تلك المقابلة قمنا أنا والضابط بأدوار مختلفة جذرياً، فقد كانت وظيفته الحصول على معلومات تمكنه من وضعي في أحد القوالب الجاهزة في قاعدة بيانات خاصة بطالبي اللجوء من دولة الكويت، بينما أنا كنت أحاول ألا أسمح للنظام بأن يدمرني. كنت مقيدًا بالوقت والأسئلة المغلقة والمقاطعات، لكنني لم أكن مسلوب الإرادة تماماً، بل تمكنت من خلال الطرق التي عبرت بها عن نفسي أن أوجّه التفاعل بيني وبين الضابط الذي لم يكن له في بعض الأحيان غير أن يُذعن للطريقة التي عبّرت بها عن نفسي. هنا بدأت أفهم الارتباط الجوهري بين الزمان والمكان والهوية، وأن الهوية عبارة عن صور من الذات يتم تكوينها عن طريق التحرّك ذهابًا وإيابًا بين أزمنة وأمكنة مرتبطة بمعانٍ اجتماعية مألوفة.

لاحظت أن روايتي قد أربكت القوالب الجاهزة والافتراءات التي طالما تم إلقاؤها على الكويتيين البدون لتضليل الرأي العالمي بشأن قضيتهم. قبل تقديم طلب اللجوء حاول الكثيرون حثي على استجداء التعاطف: نصحني البعض منهم بإظهار الضعف، بينما اقترح البعض الآخر علي أن أخفي حقيقة أنني متعلم مؤسسيًا. لكن لم يكن من المنطقي بالنسبة لي أن أمارس في مكان جديد تجربة الخضوع التي يعيشها الناس في المكان الذي جئت منه، فأنا تقدمت بطلب اللجوء في المملكة المتحدة ليس لأنني فقير أو بحاجة إلى التعاطف ولكن لأنني رفضت ممارسات يعيش الناس تحتها في تناقض بين شخصياتهم الحقيقية والشخصيات التي عليهم أن يتقمصوها لكي ينجوا بأرواحهم. أنا كنت بحاجة إلى اللجوء ليس لأنني لم أكن متعلمًا بل لأنني كنت كذلك، فنادرًا ما تتسامح الأنظمة المهيمنة في البقعة الجغرافية التي جئت منها مع الذين يتعلمون التفكير والتساؤل عن الواقع البائس المفروض عليهم.

قدمت الرواية التي عرضتها في المملكة المتحدة عن واقعنا منظورًا من شأنه تحويل النظرة للكويتيين البدون من فقراء اقتصاديًا إلى مضطهدين سياسيًا على أساس خلفياتهم الاجتماعية والعرقية، وهذا أدخلني في صراعات جديدة ليس فقط مع الأنظمة التي لا تستوعب روايتي ’القديمة الجديدة‘ ولكن أيضًا مع أفراد مجتمعي الذين برمجهم الواقع البائس الذي عاشوه ويعيشونه على أن لا يطمحوا إلى أكثر من الفُتات المتوفّر. وعند التفكير في هذا الأمر أصبحت أكثر فضولًا بشأن دورنا نحن البدون في إدامة الظروف التي تتحكم في حياتنا بينما نظن أننا نرفضها. بدأت أتساءل ليس فقط عن العوامل التي جعلتنا عرضةً للواقع الذي تم فرضه علينا في وطننا الكويت، بل أيضًا عن الأسباب التي تجعلنا لا نستطيع تغيير هذا الواقع. الآن أصبح السؤال الذي يشغلني أكثر من أي شي آخر هو: كيف ساهمت طرق تعبيرنا عن أنفسنا وتعبير الآخرين عنّا -هنا وهناك، في الماضي وفي الحاضر- باستمرار حالنا الذي نحن عليه؟ هذا السؤال يدخل في صلب تأثير المجتمع على اللغة وتأثير اللغة على المجتمع، وهذان هما المحوران الأساسيان في علم اللغة الاجتماعي الذي أرى فيه منهجًا واعدًا لفهم واقع الكويتيين البدون والبدء بتغييره.

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد