dark_mode
  • الجمعة ١٩ / أبريل / ٢٠٢٤
أهجر بدونيتي لأرتطم بفلسطينيتي - ضحى سالم

أهجر بدونيتي لأرتطم بفلسطينيتي - ضحى سالم

غادرت الكويت.. هذه المرة غادرت الكويت بطريقة مُختلفة، بطريقة قد تُعطيني فرصة للحنين أكثر، لكن هذا أيضًا لا يبدو مُتاحًا للكائن البدون إذ مع أول مُعاملة مؤسسيّة تظهر لي العبارة الرنانة، العبارة التي لا يمكن تجاوزها إلا وداخلك يفيض باللعن، تلعن ذاتك، تلعن كينونتك، تلعن وجودك بمجرد أن ورقة ما يصعب إنجازها فأنت في كل بُقع الله "مقيم بصورة غير قانونية".

أشد على نفسي وأبعد أي هاجس قد يسلبني عزمي في إكمال ما أنا قادمة عليه، لا بأس، كل الأمور ستمضي ما دامت لي فرصة للخوض في مرحلة جديدة قد تُحسّن من حياتي أنا المقيمة بصورة غير قانونية. لا بدّ أنّ لي شيئا على هذه الأرض، شيء يدفعني لأن أستمر دون يأس، هذه الإيجابيّة المفرطة والتي لا أعرف من أين يستقيها البدون، هي الوحيدة التي تجعلني أحيا حتى الآن بهذا الكم الهائل من المحاولات الدراميّة، نعم درامية، أخطط لنفسي، أكتب سيناريوهات حياتي التي أحفظها، وأؤدي المشاهد التي أعرف أن علي تأديتها، أحمل ملفّا كاملا يحمل أوراقًا لا يُعترف بمعظمها، أسارع لأن أجعل لها شرعية في بلدة ما، في بقعة ما، في حياة ما، وحتى الآن أُخفق..

لكن هذا ليس كل شيء، جئت إلى بلدة لأجد أن معظم صحبتي هم أناس لا يختلفون عني كثيرا، جاؤوا من التعس لخلق حياة أقل مرارة وبؤس، ألتقيت بهم أولئك الذين يُرمون بالقنابل والصواريخ، ووحدي أنا من كانت تُرمى بالأوراق الثبوتية، لكن الوِقع واحد.

وجدت الفلسطينيين، كما وجدتني وحيدة أبحث عن حياة تليق بتعاستي، وتعاستهم. لم تكن المسألة بتلك البساطة حين أشرح لهم أنّي لا أختلف عنهم كثيرًا، أنّني أشبههم في كل شيء، في تيه الهوية، في تيه البقاء، في تيه القرار، في تيه المغادرة، وفي تيه الفهم، وفي تيه المواقف. أجلس بينهم أحاول أن أشرح لهم أنني لست الكويتية التي تظنون، لا أشبه تلك الوجوه التي تشاهدونها في المسلسلات وتقرؤونها في الروايات، أحاول تأسيس مشهد جديد في ذاكرتهم، لعلي أقترب منهم، وأصبح أكثر تقبّلا، لست كويتية كما تظنون، أنا كويتيّة بطريقة مختلفة، بطريقة تجعلني أشاطركم المأساة وإن تعددت صورها.

أشرح وضعي، وكيف أنّي محرومة من كل الأشياء كما هم محرومون، كيف أصارع في يومي كما يصارعون، كيف أُجهز الأجوبة قبل أن تصوّبني قذائف الأسئلة. أذكر قبل قدومي أني كنت أراجع حوارات في رأسي تُجيب على أسئلة من قبيل: "ماذا تفعل الكويتية المترفة بيننا؟" "ما الذي أتى بها إلينا؟" "ما الذي يدفع كويتية أن تحصل على منحة دراسية الأولى بها طلاب آخرون؟" كل هذه الأسئلة صممت لها أجوبة تليق بها، أجوبة أكثر شاعرية، وكأني حاولت أن أحصر التأثير في قنينة زجاجية، فمتى أحتجته أفتحها ليفوح، يفوح ويملأ مشاعرهم، فأكون كما هم دون حاجة لمبررات أخرى. نجحت بذلك، لكن بطريقة أكثر منطقية، إذ بدأت أشرح قضيتي وأسبابها وتداعياتها، وجدت التضامن دون أن أفتح تلك القنينة.

منذ بدأت الأحداث الأخيرة في فلسطين وأنا لا أنفصل عنهم، آكل معهم، أنام معهم، أراقب وجوههم المتجهمة، تلك الوجوه التي كل ما تنتظره هو الموت. تُخبرني صديقتي من غزة: "بمشي وبدني مهزوز، مين بدو يموت هلقيت".

أشهد بمشاعر جديدة لم يسبق لي أن شهدتها، أن أعيش وسط أناس يترقبون الموت، وكأنه سيصيبهم بأيّة لحظة، الوجوه مسدولة على الهواتف، تتابع مواقع الصواريخ، تصرخ واحدة: "فجروا الحي اللي حدنا،" ترد أخرى: " زوج صاحبتنا هناء استشهد" ، ترد ثالثة: "فجروا الجوازات". أشهد كل هذا وأشعر بأني أبلع حسراتهم كاملة، حتى أكاد أن أغرق بها، بطني يُصاب بلوعة لا أعرفها، لوعة تدفعني لخلق حوارات ومشاهد قادمة من باب الاحتياط والاحتراز، كيف سأواسي هذه إن جاءها خبر استشهاد أحد أفراد أسرتها، وكيف سأواسي تلك إن استشهد زوجها، أخطط طوال الوقت للمواساة وأشعر بأني أضعف من كل ذلك، وأفشل بخلق الاحتياطات، كنت أبكي من بدونيتي ووجدتني الآن أبكي من فلسطينيتي.

أخرج إلى المطبخ في اليوم التالي، نجتمع فتصيح بي واحدة: "على راسي أهل الكويت أقسم بالله أنكم شرف". تنفتح شهيتي لأن أكون وطنية، إنّها تشير إلى الكويت نحوي، تُشير إليّ، تُثبت لي هويتي التي لم يعترف أحد أني أنتمي إليها، أشاركها الاندفاع ذاته، وأخبرها كم نحن في الكويت لا نتوقف عن دعم القضية الفلسطينية، وأن الشعب الكويتي لا يحمل في ذاكرته سوى المقاومة ورفض التطبيع.

أعود إلى غرفتي بكل تلك الحماسة، أدخل "تويتر" فأصطدم بالفصل والعزل الذي خُصص لنا، وأهمس لنفسي بابتسامة قد توحي للوهلة الأولى بأنها ابتسامة الحنين: "هذه الكويت التي أعرفها"، الكويت التي أقدرها في تعاستي ومآساي، في فرحي وفخري، لا تحاول حتى أن تطيّب خاطري، بأن تتركني وشأني، هكذا فارغة من كل شيء، من كل العبارات التي خلقت لنا، من كل الأوصاف التي يشار بها إلينا، من كل الحوارات والأجوبة التي عليّ خلقها، أغادر الكويت ولا تغادرني أنا المقيمة بصورة غير قانونية المضطرة دائما للتبرير، لن أنجو.

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد