dark_mode
  • السبت ٢٠ / أبريل / ٢٠٢٤
عشان عيالي - بدون قلم

عشان عيالي - بدون قلم

قبل ما يزيد على خمسة وثلاثين عامًا عندما كان فرحًا بقرب دخوله للمدرسة وكان يتعلم من إخوته الذين سبقوه كلمات النشيد الوطني حتى يرددها في طابور الصباح، فهو لم يدخل رياض الأطفال ليتعلمه، ولا يعرف السبب الذي منعه من دخولها؛ ولكن كانت تخبره والدته أن السبب هو عدم وجود روضة قريبة من البيت!

وفي ليلة ذات صفاء، رافق والده ليشتري له ملابس المدرسة فاقترح عليه والده أن يذهب معه لزيارة ديوانية أحد أصدقائه الذين رافقوه في حرب العرب ضد العدو الصهيوني الذي اغتصب أرض المسلمين كما أخبره والده بذلك. كانت الديوانية تضج برائحة القهوة والتبغ ورائحة شيء لم يكن يعرفه بعد، راح الموجودون يتجاذبون أطراف حديث تنتهي كل جملة منه بتنهيدة،  وهو يراقب ويحاول أن يفهم ولكن مستوى الحديث كان أكبر من أن يفهمه؛ فانشغل بشرب الشاي محاولًا تقليد الكبار، فهي فرصة لا تتأتى كل يوم، أثار انتباهه صوت والده الذي دخل في الحوار فجأة ولكنه أيضا لم يفهم منه شيئًا سوى كلمة سمعها من والده ظلت حبيسة ذاكرته (أبيها عشان عيالي).

قبل أيام وفي ليلة ذات عناء، جلس مع صديق عمره والذي كلما سئل عنه قال هو أخي الذي لم تلده أمي، تجاذبا أطراف حديث تنتهي كل جملة منه بشتيمة وتسخط ثم لا يلبثان أن يتبعاها بطرفة تتلوها ضحكة عالية، فالضحك وقود الفقراء كما يقول صديقه حتى تمضي عربة العمر في طريق الحياة. لمعت عين صديقه فجأة وهو يستذكر والده الذي شارك في نفس الحرب ثم عاد واستشهد بعد سنوات وهو يقوم بأداء واجبه العسكري، سكت قليلا ثم قال له: تتوقع متى؟! فأجابه: هل ما زلت تنتظر؟! قال: أبيها عشان عيالي!

عندها شم ذات الرائحة التي لم يعرفها في ديوانية صديق والده والتي لم تكن إلا رائحة الإحباط واليأس، يا الله! كأن الزمان استدار رأسًا على عقب وكأننا في دولاب تتكرر أيامه نفسها وتعود لياليه ذاتها، ما تمناه شيخ ذلك الزمان هو نفسه ما يتمناه طفل الأمس وشاب هذه الأيام. ما أصعب الانتظار وما أقسى الترقب لشيء لا تعلم متى سيأتي ولا كيف سيأتي، بل والأصعب والأقسى أن تنتظر شيئا لم يعد لانتظارك له فائدة لك أنت تحديدًا بل قد تكون لذة حصولك عليه -لو حصلت- قد فاتت، فأنت لا تريده لنفسك بل لمن تخشى عليه أن يعاني مثل معاناتك.

نعم نريدها لأطفالنا حتى لا يعيشوا بلا شهادة ميلاد وبلا شهادة وفاة وبلا دراسة وبلا عمل وبلا... وبلا...وبلا... وبلا أمل!

نعم... نريدها لأطفالنا حتى لا يعيشوا حالة حب مع الوطن من طرف واحد فيقاسوا عذاب الجحود وألم النكران.

نعم... نريدها لأطفالنا حتى لا يصبحوا ضحية واقعة بين مطرقة الانحراف وسندان الانتحار.

نعم... نريدها لأطفالنا لأننا لا نريد أن نراهم يعيشون في حرمان ويمارسون حياتهم في مشقة ويعانون من نظرات النقص تارة والاتهام تارة أخرى، والتي تلاحقهم في كل مكان، لا سيما مع تزايد حملات التشويه لقضيتهم في هذا الزمان عنها في ذاك الزمان.

نعم... نريدها لأطفالنا لأنها حق أصيل لهم؛ فهم أبناء هذا الوطن مهما حاول الآخرون نفيهم منه وإبعادهم عنه.

نعم... نريدها لأطفالنا لأننا لا نريدهم أن يقولوا حين يكبرون كما قال أجدادهم من قبل (أبيها عشان عيالي).

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد