dark_mode
  • الأربعاء ٢٤ / أبريل / ٢٠٢٤
جرامشي والبدون – أحمد السويط

جرامشي والبدون – أحمد السويط

من هو جرامشي؟

أنتوني جرامشي كان أحد قادة الحراك الاشتراكي في إيطاليا في بداية القرن الحادي والعشرين، أمضى سنواته الأخيرة في السجن بعد أن وصل موسوليني إلى الحكم وأمر باعتقاله. وهو في السجن شغل جرامشي أوقاته بالتساؤل: "كيف انتهى بي المطاف هنا؟" هذا التساؤل يستدعي العوامل التي تؤدي إلى الحركة بين المركز والهامش في المجتمع، ولكن أيضا تلك التي تمنع الحركة والتغيير.

الحركة بين المركز والهامش

لم يكن سؤال جرامشي غريباً لأنه حتى بداية العشرينيات كان من الممكن لإيطاليا أن تصبح دولة اشتراكية، ويصبح هو بالتالي في موقع قوة وحرّية أكبر من السجن الذي انتهى به المطاف فيه. ذلك لأن الحزب الاشتراكي آنذاك كان يتمتع بشعبية كبيرة، ومشاركة ضخمة، وكانوا منظمين جداً. ولكن انقلاب موسوليني وقفزه فجأة من الحركة العمالية إلى سدة الحكم (الفاشي) أدى بأشخاص كانوا قريبين من مركز القوة السياسية أن وجدوا أنفسهم على الهامش —بل في غياهب السجن.

مذكرات السجن

استغل جرامشي أوقاته في السجن في تحليل الواقع السياسي في إيطاليا، وعلى الرغم من ندرة المراجع والموارد العلمية التي كانت متاحة له، وخطورة نقد السلطة الفاشية آنذاك، قام بكتابة مذكراتٍ تحولت فيما بعد إلى واحد من أكثر الكتب تأثيرا في الفكر الاجتماعي-السياسي في العالم. اعتمد جرامشي على نوع زهيد من الورق كان يُهرّب له داخل السجن ثم إلى خارجه كلما امتلأت صحائفه بالملاحظات، وهكذا جمعت فصول كتابه (Prison Notebooks).

أكثر ما تركز عليه المذكرات هو محاولة فهم البنى التحتية التي تعزز هيمنة فئات اجتماعية معينة على الواقع السياسي وتفكيكها، ولعلّ قراءته للممارسات الثقافية التي مكّنت الفاشية على أنّها نموذج للهيمنة هي ما منعته من التنقيب عن مكامن القوة في ممارسات الفئات الاجتماعية المهمّشة، وهذا ما اهتمت به دراسات نقدية في علم اللغة الاجتماعي والأنثروبولوجيا اللغوية، مثل تلك التي قام بها ديل هايمز (1962) حول أهمية إحياء تراث الهويات المهمّشة، ودراسة مونيكا هيلر وبوني ماكلهيني (2017) حول العلاقة بين اللغة والرأسمالية والاستعمار، ودور اللغة في عمليات التهميش والهيمنة التي تضمنها هذين النظامين. 

الهيمنة الثقافية

تشرح مذكرات جرامشي كيفية الوصول إلى الهيمنة عن طريق استخدام وسيلتين معاً: الإكراه والقبول، بإشارة إلى أن الحركة باتجاه مراكز القوة من الممكن أن تبدأ عن طريق استخدام إحدى الوسيلتين. يقوم منطق الإكراه على القوة المادية، والتي عادة ما تؤدي إلى معارضة تقليدية عنيفة. أمّا القبول فيتضمن إقناع الفئات الاجتماعية المختلفة في المجتمع الواحد بأن الأمور على ما ينبغي أن تكون عليه من خلال عمليات ثقافية يتم فيها تطبيع أفكار فئات اجتماعية معينة وممارساتها ومكانتها على أنها هي الأجدر والأهم. لماذا يتم اختيار رموز معينة — ’البوم‘ مثلاً — في الطوابع البريدية والنقود وشعارات الدول؟

مفهوم جرامشي للهيمنة الثقافية يوضح أن للغة دور في تسيّد فئات اجتماعية معينة، وأن التعامل مع هذا الأمر على أنه أمر بديهي هو ما يعزز هيمنتهم. بمعنى آخر، يبدو أنه يرى أن سبب "الهيمنة الثقافية" لفئات اجتماعية معينة يكمن في قبول أفكارهم وممارساتهم وترويجها على أنها نموذجية ومفضّلة، وهذا ما يعطيهم الشرعية لاستخدام القوة المادية كيفما شاؤوا.

دور اللغة في التهميش والهيمنة

يرى جرامشي أن أحد أهم أسباب التهميش —كنتيجة للهيمنة الثقافية— هو محدودية المعرفة اللغوية، ويشير هنا إلى الذين يتحدّثون فقط باللهجات الإقليمية ولم يتمكنوا من إتقان اللغة القومية الرسمية –لغة التعليم والسياسة والاقتصاد... إلخ. كذلك يقترح جرامشي أن المهمّشين إذا ما أرادو تغيير واقعهم فإنهم بحاجة إلى لغة مشتركة بينهم، بالإضافة إلى حاجتهم إلى تعلّم اللغة القومية التي هي الميدان الذي تجري عليه النضالات الوطنية في نظام الدولة الحديثة. هذا الأمر ربما يكون أحد أسباب انتشار لغة المركز —بما تحتويه من ممارسات ثقافية— نحو الهامش، وبالتالي هيمنة تلك اللغة (الخاصة بالأقوياء عادة) على لغات المهمشين. في هذا السياق، يميز جرامشي بين اللغة واللهجة ودور كل منهما في التهميش والهيمنة على النحو التالي:

إذا كان صحيحًا أن كل لغة تحتوي على عناصر الثقافة وتصور العالم، فقد يكون صحيحًا أيضًا أنه من خلال لغة أي شخص يمكن تقييم عمق فهمه وتصوراته عن العالم... إن الشخص الذي يتحدث باللهجة فقط، أو يفهم اللغة الرسمية بشكل سطحي، سيكون فهمه للعالم محدود ومحلي بالنسبة للتيارات الفكرية الرئيسية التي تهيمن على تاريخ العالم. ستكون اهتماماته محدودة بشكل أو بآخر، ]ربما[ مؤسسية  أو اقتصادية، ولكن ليست عالمية. في حين أنه ليس من الممكن دائمًا تعلم عدد من اللغات الأجنبية من أجل التواصل مع الحياة الثقافية الأخرى، فمن الضروري على الأقل تعلم اللغة الرسمية بشكل صحيح... أي لغة قومية عظيمة ذات ثراء وعمق تاريخي يمكنها أن تترجم أي ثقافة عظيمة أخرى ويمكن أن تكون وسيلة تعبير في جميع أنحاء العالم. لكن اللهجة لا تستطيع فعل ذلك (1971، ص 629).

ربما من المفيد ألا يحصر معنى كلام جرامشي في أن اللغة الرسمية هي وحدها ما نحتاجه لمقاومة التهميش والهيمنة الثقافية. ذلك لأن أحد آثار الهيمنة الثقافية هو التقليل من شأن الثقافات البعيدة عن مركز القوة، بل وشيطنتها أحيانا. لذا فإن إحياء الممارسات الثقافية المهمشة الذي دعى إليه ديل هايمز (1962) لا يقل أهمية عن تعلّم اللغة الرسمية وما فيها من ممارسات ثقافية. من خلال إحياء الثقافات المهمّشة وتشجيع قيمتها وثقتها بنفسها ربما يمكن التقليل من هيمنة الثقافة الرأسمالية التي تتغذى على تهميش الإنسان بدلاً من التعامل معه على أنه قيمة مطلقة بذاته. هذا المعنى ينطبق على ما مرّ به قبائل بادية شمال الكويت الذين تم إقصاؤهم من حق المواطنة، وبالتالي تحويلهم إلى عديمي جنسية (بدون) في وطنهم الكويت.

عندما كنت أسمع قصص البدون الذين تم إقصاؤهم من حق المواطنة بسبب شماغهم الأحمر ومفردات نطقوها أو لم يستطيعوا نطقها كما أراد أعضاء لجان الجنسية ظننت أن تلك كانت تصرفات شخصية من أعضاء اللجان. لكن من يقرأ المادة 13 من مرسوم رقم 5 لسنة 1960 الخاص بقانون تحقيق الجنسية الكويتية ("للجنة سماع أقوال الطالب ومناقشته، ولها أن تستعين في التعرف على الجنسية الكويتية باللهجة والسمت وغير ذلك من الإمارات المادية") يدرك أن الأمر يتجاوز الصدفة. لا يبدو أن من صاغ هذا المرسوم كان عاجزاً عن التفريق بين مفهوم الجنسية (الاجتماعي) ووثيقة الجنسية (القانونية) لأن المرسوم يتحدّث عن "التعرف على الجنسية الكويتية" قبل صدور وثيقة الجنسية الكويتية. ولكن استخدام اللهجة كمعيار قانوني لاستحقاق الجنسية، والاستهداف الذي تتعرض له لهجة قبائل شمال الكويت إلى اليوم، يؤكد أن واقع مجتمع البدون على محك اللغة والتهميش والهيمنة الثقافية.

ليست المشكلة الأساسية في إقصاء قبائل بادية شمال الكويت من حق المواطنة، واستغلالهم في فترات تاريخية معينة، ثم محاولة التخلص منهم، لأن هذه كلها نتائج ترتبت على تهميشهم وعدم امتلاكهم أدوات الدفاع عن أنفسهم وحقوقهم، وأهم تلك الأدوات هو التعليم والوعي السياسي. وإذا أردنا معالجة المشكلة علينا التصدي لها من جذورها، لأن تغييب البدون عن ملابسات قضيتهم هو من ساهم بمفاقمتها وتحويلها من انعدام جنسية إلى عملية "أجنبة" ممنهجة أشبه بممارسة الابتزاز بغرض الإكراه.

إنّ أحد العوامل التي مكنت التهميش والهيمنة الثقافية من قبائل بادية شمال الكويت هو سكوتهم عن المساس بهوياتهم وممارساتهم الثقافية إلى درجة جعلت الذين يستهدفونهم يصورونها وكأنها تهمة كما فعل رئيس الجهاز المركزي عندما كان عضواً في مجلس الأمة حيث كان يتّهم البدون بأنهم ’زحفوا‘ من الشمال وأنّه يمكن تمييزهم "بالنظر... وبالدقّات، وباللهجة"، ولم يجد من أعضاء الحكومة أو المجلس من يتصدى له ولو بكلمة الفنان الراحل عبد الحسين عبد الرضا في مسرحية درب الزلق: "بدا يغلط على الأهل".

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد