dark_mode
  • الجمعة ٢٩ / مارس / ٢٠٢٤
الجندي المجهول – أحمد السويط

الجندي المجهول – أحمد السويط

هكذا اختار أحد رجال الكويتيين البدون أن يسمي قصيدة له واصفاً ظروف كتابته لها بقوله: "سجّلتها بالثمانينات، وسجّلت عليها ’الجندي المجهول‘ ... لأني ذلّيت منها ... أنا ذلّيت منها ... أنا عسكري ..."

لعل شجاعة "الجندي المجهول" وفطنته هما أول ما قد يتبادر إلى الذهن، وذلك نتيجة موازنته بين التعبير عن رأيه وحماية نفسه من تبعات الحديث في قضية سياسية بطبيعتها —لا سيما وهو "عسكري". ولكن في الحقيقة فإن الدور الأهم الذي لعبه جندي البدون المجهول هو دور "المثقف الشاهد" الذي يجسّد ما وصفه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في مقولته الشهيرة عن أهمية المقاومة الثقافية ضد التلاعب السياسي بالتاريخ: "على المثقفين أن يكونوا شهوداً يشهدون على سوء استخدام التاريخ".

ما تقوله القصيدة

تبدأ قصيدة "الجندي المجهول" بالتعبير عن التقدير والفداء وحب الوطن (الكويت) على الرغم من الحرمان من حق المواطنة فيه. كما يبدو أنها تشير في السطر الأخير من الجزء الأول منها إلى تاريخ "الهدم" الذي تعرّض له مجتمع الكويتيين البدون بدءاً من منتصف الثمانينيات من القرن الماضي:

ياكويتنا حقج على الراس والعين **  والله أحبج ]و[لو ماني كويتي

معزتج ياكويت برقابنا دَين ** نرخص عزيز الروح جانج نخيتي

أنتي بنيتينا وحنا وفيين ** ولا تهدين اليوم فيما بنيتي

ثم توثّق القصيدة في الجزء الثاني منها ارتباط البدون الجغرافي بوطنهم الكويت واستيطانهم في باديتها، وتنفي صفة الغرباء عنهم، كما يبدو أنها تسقط إسقاطةً على التناقض في إقصاء البدون القاطنين بأرض الكويت وألويتها العسكرية في الشدائد بينما يقضي مواطنون (كُثُر) أوقاتهم بعيداً عنها في دول الغرب:

ماجينا من الهند ولّا من الصين ** ولا حنّا أمريكان أو سوفيتي

جيناج من رعي الغنم والبعارين ** من البادية يكويت وأنتي دريتي

يوم الكويتي بين لندن وبرلين ** وحنّا بلوا اليرموك جيشٍ كويتي

بعد ذلك تتحدث القصيدة بشكل مباشر في الجزء الثالث منها عن إقصاء مجتمع الكويتيين البدون من حق (إثبات) المواطنة، وما صاحب ذلك من تجاهل وحرمان —لا سيما من حقوق السكن والرعاية الاجتماعية، مع إشارة إلى وجود تحيّز لأيادي رأسمالية فاسدة معادية لمجتمع الكويتيين البدون:

الّي يثبتنا كرت صحة وتسنين ** وجنسيتج فيها علينا عصيتي

أولادنا بالحر والبرد والطين ** وسط العشيش وبامرهم ما سعيتي

طعتي بنا ياكويت هرج البغيضين ** ياليتج لهروجهم ما صغيتي

الّي بأوروبا حاطين الملايين ** نهبوا خيراتج بالخفا ولا دريتي

وفي النهاية تشبّه القصيدة في الجزء الأخير منها طغيان الفاسدين وتسلطهم بـ"كسرى"، وتحذّر من مغبّة السكوت والتغاضي عن الظلم الواقع على مجتمع الكويتيين البدون:

أولاد كسرى فيج صاروا سلاطين ** ياكويت قصدج خوف ولّا انعميتي

والظلم يطلعلج ولو بعد حين ** لازم يبيّن واحصدي ماجنيتي

ما تفعله القصيدة

ما تم تناوله حتى الآن مرتبط بالبعد اللغوي لقصيدة "الجندي المجهول"، ولكن كل ذلك لا قيمة علمية له — أو على الأقل يبقى تحليلاً قاصراً— ما لم يؤخذ بعين الاعتبار البعد العملي للقصيدة، ألا وهو تأثيرها على أرض الواقع.

من الناحية العملية تشكّل قصيدة "الجندي المجهول" مقاومة فعلية لمحاولات مسح تاريخ الكويتيين البدون وهويتهم. ذلك لأنها توثق تاريخ قضيتهم بأبعادها الاجتماعية والسياسية والجغرافية على الرغم من حملات التسطيح التي حاولت على مدى عقود من الزمن تصوير القضية على أنها قضية "مقيمين بصورة غير قانونية". وهذا يكشف قصور النظرة الأحادية التي تجسدت في المنهجيات (الأمنية) التي تبنتها الحكومات المتعاقبة في التعامل مع القضية بجهل وتجاهل لا يمكن فصلهما عن سياسة الاستماع بأذن واحدة للمستفيدين من استمرار معاناة الإنسان البدون، ولو على حساب أمن وسمعة ومكانة دولة الكويت إقليمياً ودولياً.

لا يوجد دمار أكبر من أن يُلغى وجود الإنسان في وطنه الذي ينتمي إليه. لا يقبل إنسان عاقل بأن يتنازل عن انتمائه الذي يُسلب منه قسراً. وحتى لو احتضنه وطنٌ آخر سيبقى جُرح الوطن الأم ينزف —على الأقل نزيفاً داخلياً. قد ينجح البعض ممن بيدهم سلطة في كتابة التاريخ كما يشاؤون بعد خنق أصوات المستضعفين —ولكن أي تاريخ هشٍ سيكون ذلك؟ وأي حمقٍ يعاني منه أولئك الذين يحرصون على بناء بيوتهم (المؤقتة) فوق أساسات راسخة بينما لا يقلقهم أن يُبنى تاريخهم (الأبدي) على أساسات قابلة للانهيار إذا ما واجهتها كلمات عصيةٌ على القمع كتلك التي تضمنتها قصيدة "الجندي المجهول".

إصلاح التاريخ

إصلاح التاريخ، كما يشير إليه المفكر إدوارد سعيد في حديثه عن دور "المثقف الشاهد"، يبدأ من إحياء الأصوات المقموعة. أقل ما يستطيع المثقف فعله هو حماية المستضعفين من التغييب والفناء في طي النسيان، ويمكن ذلك عن طريق توثيق قصصهم وإعادة إحيائها. هذا ما قام به "الجندي المجهول" بقصيدته التي تربط بين ماضي وحاضر ومستقبل قضية البدون.

 ليس بالضرورة أن تكون في موقف ضعف حتى تشعر بالمستضعفين. التاريخ يخبرنا أن السلطة المنتصرة في جنوب أفريقيا بعد انهيار نظام الفصل العنصري استمدّت قوتها وشرعيتها من إحياء الأصوات المقموعة لكي تصلح ما أفسدته العنصرية، فقد تضمّن مشروع الإصلاح السياسي الذي تبنته "حكومة الوحدة الوطنية" آنذاك تشريع قانون بإنشاء "لجنة الحقيقة والمصالحة" التي قامت على حوار مفتوح بين السلطة والفئات التي تعرضت للتهميش والقمع تاريخياً، بشكل أعطى أصوات المهمّشين وآراءهم أهمية ساهمت في تأسيس وبناء مجتمع جنوب أفريقيا الجديد.

ربما لم يعلم "الجندي المجهول" عن دور "المثقف الشاهد" الذي لعبه، أو عن المقاومة الثقافية التي جسدتها قصيدته قولاً وفعلا. كذلك ربما لا يعلم أن قصيدته تشارك الآن بالتصدي لممارسات التغييب والتغريب و"الأجنبة" التي انتهجتها أجهزة حكومية متعاقبة أملاً في تحويل جزء لا يتجزأ من جغرافيا وتاريخ دولة الكويت من مواطنين (مع وقف التنفيذ) إلى "كويتيين أجانب" بأمر الواقع بتغرير وتلفيق من جماعة "الّي بأوروبا حاطين الملايين". ربما ليس من المبالغة القول بأنه لا يوجد إنسان غير مثقف، ولكن الفرق بين مثقف وآخر هو المبادرة بتفعيل المعارف والإمكانيات المتاحة في مقاومة الظلم (ثقافياً) ومحاولة التغيير للأفضل.


صورة المقال من قناة رواة البادية على موقع يوتيوب

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد