dark_mode
  • الخميس ٢٥ / أبريل / ٢٠٢٤
أسطورة سيزيف.. واقع البدون - لمى العثمان

أسطورة سيزيف.. واقع البدون - لمى العثمان

يذكرني الحديثُ عن العذابِ الأبدي للبدون بأسطورةِ سيزيف للكاتب ألبير كامو.
سيزيف الذي عاقبته الآلهة بأن يحملَ صخرةً من أسفل الجبل إلى أعلاه، حتى إذا وصل إلى قمة الجبل تدحرجت الصخرةُ لتسقطَ في الوادي، فيلحقُها ويعودُ إلى رفعها إلى القمة.. فتسقط.. مرارا وتكرارا دون نهاية، ويظل هكذا إلى الأبد رمزًا للعذاب الأبدي.

إن حديثي عن أسطورة سيزيف ما هو إلا استعارةٌ مجازيةٌ أُسقط فيها معاناة سيزيف على واقع البدون، فما استمراره في رفع الصخرة إلا نضالهم المستمر ضد عبثية التعامل مع قضيتهم، وما الصخرةُ في تدحرجِها إلا مآسيهم والكوارثُ الإنسانيةُ التي تُمارس ضدهم ويضطرون لمواجهتها بشكل يومي... هكذا منذ 60 سنة! 

ما نقوله هنا ليس إلا تكرارًا واجترارًا لذات القصص المؤلمة التي تُحكى منذ عشرات السنين.. ولا تزال ذات الصخرة تتدحرج عبثا.

وفي حين كان سيزيف مجبورًا على حمل صخرةٍ واحدة، فإن البدون مجبرون على حمل صخراتٍ عدة.. إحداها أزمة التعليم.

إن التعليم هو إحدى قصصهم الموجعة، معاناتهم التي تشمل كل الحقوق الإنسانية والمدنية. وهنا نناقش قضية تعليم البدون، والذين إن تعلموا، تبقى صعوبة إيجاد وظائف تؤمن لهم عيش كريم مأزق آخر.

ولكن قبل الخوض في قضية التعليم، دعونا نعود إلى جوهر المعضلة الذي يتمثل في عدم وجود قانون يحمي عديمي الجنسية وينظم حقوقهم جميعها بالاتساق والمواثيق الدولية. وهذا يدفع إلى السطح المشكلة المتمثلة أصلًا في عدم الاعتراف بوجود عديمي جنسية، واستخدام مسميات مختلفة لتبرير المآسي الإنسانية، والتنصل من الدعوات الدولية للتوقيع على اتفاقية عديمي الجنسية.

إن تسميةَ البدون بالمقيمين بصورةٍ غيرِ قانونية لا ينسجم إطلاقًا مع الاعتراف الحكومي والقضائي بوجود الغالبيةِ العظمى منهم بصورة مشروعة على مدى عقود من الزمن، كما أنه وصفٌ لا يتسق مع السجل الذي قدّمت الكويت نسخةً منه إلى مجلس الأمن بعد أن صادقت عليه إبّان الاحتلال العراقي الغاشم.
وبالاستناد إلى تعريف الاتفاقية لمن هو عديم الجنسية يظهر أمامنا الحل واضحًا وجليًا، حيث تُعرف الاتفاقية عديم الجنسية على أنه: الشخص الذي لا تعترف أي دولة بانتمائه إليها.
 وبالتالي فإن الإجراءَ لا يحتاجُ إلا إلى مخاطبة الدول إن كان البدون مواطنًا فيها.

إلا أن الحلَ الذي يُطبق عليهم حاليًا في ظلِ الفراغِ القانوني السائد ما هو إلا إصدارُ قراراتٍ عشوائيةٍ تضييقيةٍ تتغير كل فترة، وتُستخدم كأدوات ضغطٍ لا إنسانية. ونتيجة لهذا الأسلوب العبثي لا يجد البدون حلًا إلا اللجوء- مضطرين- للفزعاتِ الإنسانيةِ والمناشداتِ عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

يقول أبو صلاح- والدٌ لطفلٍ من ذوي الإعاقة: "ما في قانون يحفظ كرامة البدون.. إذا اختنق البدون لا يعرف غير المناشدة.. إذا طرد أطفال البدون يناشدون.. إذا احتاجوا للعلاج يناشدون.. إذا احتاجوا لكراسي وحافظات لذوي الإعاقة يناشدون".


وبالعودة إلى موضوع المقال، لا بد أن أسرد محطاتٍ سريعةً لانتهاكاتٍ كثيرةٍ يتعرضُ لها البدون في هذا الشأن.

- كان التعليمُ الحكومي للبدون مقتصرًا على أبناء الكويتيات وأبناء الشهداء والأسرى.

- ثم منذ ٤ سنوات، سُمح للفئات التالية بالتسجيل في المدارس الحكومية: (أحفاد الكويتيات وأبناء وأحفاد العسكريين وحملة إحصاء ١٩٦٥).
إلا أن هذه الفئات مطالبة بإظهار بطاقةٍ سارية للطالبِ ووليِ أمره.

- تم مؤخرًا اشتراطَ شهادةِ استمرارٍ بالوظيفة لأبناء وأحفاد العسكريين وهو الأمر الذي سبب طرد بعضِهم من المدارس ممن انتهت خدمةُ آبائهم وأجدادهم لبلوغهم سن الخامسة والستين (65).

- خلال أواخر شهر أكتوبر الماضي، تم طردُ (23) ثلاثٍ وعشرين طالبةً في مدارس منطقة الفروانية التعليمية بحجة عدم شملهم ضمن الفئات المستثناة للتسجيل بالتعليم الحكومي، وبعد إثارة الموضوع في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي تم تجميد القرار (وليس إلغاؤه) وما زال قرارًا قائمًا لحين الانتهاءِ من بحثِ جميعِ الملفات في جميع المناطق التعليمية.

- أما من تبقى من فئات البدون الأخرى فيلتحقون بالتعليم الخاص مع تحمل من يحمل بطاقة صالحة منهم فروقات الرسوم مع صندوق التعليم.. وكثير من البدون لا يستطيعون دفعها، وبالتالي تتعطل دورة التحاق أبنائهم بالمدارس حتى دفعِها.
وما انتشارُ صورِ أطفالٍ يبيعون البطيخ، خلف أسوارِ المدرسة، تحت أشعةِ الشمسِ الحارقة.. ووفاةِ بائعِ الورد الطفل جراح دهسًا إلا دليلٌ على ذلك البؤس. 

هذا بالنسبة للتعليم المدرسي.

- أما التعليم الجامعي فهو الأزمة المستعصية، حيث لا يُقبل في جامعة الكويت إلا عددٌ قليلٌ جدًا وبذات الشروط التعجيزية.
ومن استطاع أن يتعلم منهم وينبغ- لا سيما خارج الكويت، يشار إليه كمواطن، تمامًا كما حصل مع استشاري أمراض القلب الدكتور فواز العنزي وغيره ممن حفروا الصخر ووصلوا لكن في مكان آخر.. بينما هنا لا تزال العقول تُهدر.. ليُحرم الوطنُ من إسهام حقيقي في بنائه.

أما فيما يتعلق بتعليم ذوي الاحتياجات الخاصة من البدون، فهم الأحياء الأموات: 
- فذو الاحتياجات الخاصة لأم كويتية يشمله قانون المعاقين بخدمات التعليم والصحة والوظيفة فقط.

- ويُمنح ذوو الاحتياجات الخاصة الآخرون بطاقةَ إثباتِ إعاقةٍ مدونًا بها أنهم غيرُ مشمولين بقانون المعاقين.

- يُسمح لأبناء الكويتيات وأبناء العسكريين فقط بالالتحاق في المدارس الحكومية للمعاقين.

- لا تنطبق شروط التعليم الجامعي لذوي الإعاقة على البدون بكل شرائحهم، ويتم ضم الأعداد المقبولة منهم إلى فئة الأصحاء من البدون.

- يعيشون على هامش الحياة، فرسوم المدارس الخاصة تصل إلـى ألفي (2000) دينار.. لذا نرى الكثير من ذوي الإعاقة لم يتعلموا في حياتهم. يقول أحدهم: تعبت من محاولة تسجيل ابني المعاق في المدارس الخاصة لذوي الاحتياجات الخاصة دون فائدة، أثرَ ذلك على حالته النفسية، لأنه يرى إخوانه يذهبون إلى المدرسة بينما هو جالسٌ في البيت. "


- وكنتيجة لحرمانهم من التعليم وانخراطهم في مسار الحياة الطبيعية والتعرف على أناس جدد في محيط جديد، يعاني أولياء أمورهم من صعوبةٍ في التواصل معهم لا سيما وأنهم في حاجة ماسة للعلاج التأهيلي، الأمر الذي ينتج عنه انتكاسة حالاتهم الصحية.


إن حرمانَ البدون من الحقوق الأساسية (وليس فقط التعليم) يتلخص في ابتزاز البدون لدفعهم إلى تجديد البطاقة الأمنية، حيث يصر الجهاز على الدوائر الحكومية والأهلية عدم قبول إنجاز أي معاملة للبدون الذي لا يحمل بطاقة أمنية صالحة.. ويرفض كثيرٌ من البدون تجديدَ بطاقاتِهم لرفضِهم ادعاءَ الجهازِ نسبتَهم إلى جنسياتٍ ملفقةٍ من دول مجاورة إما لوجود أقاربٍ يحملون جنسياتِ هذه الدول أو مغادرةِ أفرادٍ منهم إلى دول مجاورة فينسبُ الجهاز هذه الأسر إلى تلك الدول.

يقول أحدهم: "يتم إكراهُنا بالتوقيع على الجنسيات التي وضعوها لنا، وقفنا احتجاجًا أمام الجهاز مطالبين باستخراج الجنسيات أو أي كتاب يحيلنا لسفارات الدول التي يريدون منا أن نعترف ونقر بها، ببنما ترفض تلك السفارات استخراجها أو الاعتراف بنا. نحن محاصرون بلا رحمة.."

تقول سعدية مفرح: أن تكون "بدون" يعني أن تكون مستباحًا لكل أنواع الأسئلة، ممن تعرفه ومن لا تعرفه: ابن من؟ أين ولدت؟ لماذا لم يحصل جدك على الجنسية؟ كيف تعيش بلا مصدر رزق؟ لماذا لم تتزوج؟ كيف تزوجت؟ هل من الضروري أن تنجب هذا العدد من الأطفال؟ لماذا أنت مصر على البقاء بيننا؟ لماذا لا تهاجر؟ لماذا لا تعود إلى موطن أجدادك قبل مائة عام؟ ولا تجتهد كثيراً في ابتكار الإجابات المثالية.. فلن يقبلوا بها مهما بلغ اجتهادُك فيها! ستكون درجتُك في امتحانهم دائمًا.. صفرًا!

وكما بدأت بأسطورة سيزيف لألبير كامو أختم باقتباس من نفس الكتاب:
"هنالك في تعلق الإنسان بالحياة شيءٌ أقوى من كل شرور العالم."
فهل يقوى البدون على انتزاع حقهم في الحياة يومًا ما؟

لقد كان سيزيف مجرد أسطورة ترمز للعذاب الأبدي.. إلا أن بدون الكويت أحالوا تلك الأسطورة واقعًا في نضالهم على جبهات عدة، راجين أن ينالوا يومًا نهايتهم العادلة.. المُستحقة.

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد