dark_mode
  • الجمعة ٢٩ / مارس / ٢٠٢٤
العدد صفر...كلاكيت ثاني مرة – جهاد محمد

العدد صفر...كلاكيت ثاني مرة – جهاد محمد

كان الطقس أكثر برودة من هذا بقليل. رسالة بريد إلكتروني تعيد تدفق "الأدرينالين" فيّ، يحمل اسم موقعتها دفئًا لا يضاهيه شيء سوى شمسٍ في صحوة سماء تشرين الثاني، تدعوني خلالها للمشاركة في العدد الأول لصحيفة إلكترونية مختصة بقضية البدون، تلك التي أصبحت فيما بعد "بلاتفورم"... صوتنا ومنصتنا. 

طوال عقود خلت كنا خلالها نعيش في جلباب الإعلام الرسمي ومن يدور في فلكه من نظيره الخاص، كان مجرد تواجد كلمة البدون بين أسطرها تعني رواجًا لذلك العدد المقروء منه في مناطق الكثافة "البدونية"، على الرغم من استمرار المعاناة في تلك الصحف والقنوات الإعلامية عبر جعلها منبر للرأي الأوحد فقط "الحكومي"، دون أي التزام بالحد الأدنى من المعايير المهنية المتعلقة بعدم إبداء الرأي في الخبر أو نقل الرأي الآخر للحدث.

صحيح أن طفرة إعلام التواصل الاجتماعي ساهمت بشكل كبير في بداياتها في نقل صوت البدون إلى آفاق كانت مغلقة أمامنا المحلية منها أو الإقليمية والدولية، إلا أن "الثورة المضادة" للأذرع السلطوية جعلت المتعاطين مع وسائل التواصل الاجتماعي يتراجعون خطوات إلى الخلف قبل أي تفاعل بنّاء مع الأخبار والأحداث المتعلقة بـ"البدون" عبر رسم صورة غير منطقية للواقع تتمثل في سيطرة "البدون" على هذه المنصات مما يعيد سيناريو الصوت الإعلامي الواحد إلى مربعه الأول مرة أخرى؛ ولكن بشكل عكسي هذه المرة. وقد ساهم الأمر ذاته في علو الصوت العنصري البغيض تجاه هذه القضية، بل إنه احتل مساحة واسعة من مسامع المسؤولين أو ذوي الرأي الرمادي.

العمل الفردي

إن كان لا بد من تشريح للثلاثين سنة الأخيرة من عمر القضية فإن جل العمل المناصر لها تمثل في جهود فردية من أشخاص اعتباريين في المجتمع بالتعاون مع بعض أبناء البدون أنفسهم، وقد تناولت هذه الجهود القضية من جانبين رئيسيين تمثلا في ردة الفعل على أي قرار حكومي مجحف بحق أشخاص من ذوي ما يعرف بـ "الخدمات الجليلة" أو عبر إعادة بعض الحقوق الإنسانية الطبيعية للبدون. فبعد سنوات طويلة تكللت جهود الشيخة أوراد الجابر والشيخة المحامية فوزية الصباح بتجنيس أفراد موكب حماية الراحل الشيخ جابر الأحمد أثناء محاولة اغتياله في ثمانينيات القرن الماضي، هذا من جانب، في حين تمثل الجانب الإنساني في إنشاء صندوق تعليم البدون بعد أن استوعب المسؤولون أن خلق جيل غير متعلم ينعكس سلبًا على تقدم الوطن أولًا قبل أي شيء آخر يتعلق بسياسة التضيق المنتهجة ضد البدون.

هذه الجهود الفردية ما كانت لتكون لولا وجود شخصيات من صلب الأسرة الحاكمة خلفها؛ أي أنهم كانوا أقل عرضة من غيرهم لقبول مقايضات الصمت، كما ساهم اقتران العمل على الورق بالعمل على الأرض في الوصول إلى الهدف المنشود. هذا بالإضافة إلى العامل المهم جدًا والمتمثل في عنايتهم بشريحة قليلة من المجتمع البدوني وليس بالقضية بشكل كامل، وعلى الرغم من نبل هذه الجهود والتقدير الواسع الذي ناله أصحابها إلا أنه قد أتى متوافقًا تمامًا مع الخطوط العريضة للنهج الحكومي الأول في فصل البدون إلى فئات عديدة بدءًا بحملة إحصاء 1965 ومن بعده وأبناء الكويتيات والعسكريين وقدامى العاملين بالنفط والمؤسسات الحكومية الأخرى، فكان لا بأس حكوميًا في تقديم تنازل يتماهى مع تأكيدهم المستمر أن البدون ليست قضية وإنما فئات يستحق بعضها الحياة في حين يجب وأد بعضها الآخر.

نقد ذاتي

يعتبر الإعلام نقيضي سكين للقضية، فعلى الرغم من اهتمام المؤسسات الإعلامية العالمية بقضية البدون في السنوات الأخيرة إلا أن التعاطي معها كان ينتهج في الغالب نهج الطابع الفردي المتمثل في ردة الفعل على حوادث شخصية ذات محاور محدودة النقاش مع بقاء السؤال الأهم عالقًا في ذهن الكثيرين دون أن يطرحه أحد: مهم جدًا تسليط الضوء على عدم استلام بدون لرواتبه منذ شهور عديدة؛ لكن ماذا عن الألف العاطلين عن العمل؟ مؤسف جدًا مشهد طرد طفلة من المدرسة؛ لكن ماذا عن عشرات الأطفال الذين حرموا من الدراسة بسبب فروق الرسوم في المدارس الخاصة؟ لماذا لا تناقش قضية الحرمان القسري لجزء كبير من شباب البدون من الزواج بسبب القيود الأمنية أو قرائن الجنسية الملفقة في بطاقاتهم؟ كم وليدًا لا شهادة ميلاد له بسبب هذا الأمر أيضًا؟

لعل أكثر ما عانى منه البدون سابقًا تمثل في الظهور الإعلامي الوازن لطرح قضيتهم طرحًا كاملًا وليس استعراض حالات فقط، والذي يكون لصاحبه قدرة على خلق رأي عام مساند للقضية عبر الجوانب القانونية والاجتماعية بل والإنسانية أيضًا، وحتى الأصوات المهمة التي كانت تعمل على هذا الجانب كانت عرضة لهجمات مضادة من قبل الأذرع الإعلامية للجهاز المركزي عبر تسريبات غير أخلاقية لوثائق غير صحيحة تجعلهم في موضع شك لدى المتلقين من ذوي الفهم البسيط لقضية البدون، مما أثر بشكل كبير على التفاعل المجتمعي مع القضية بشكل كامل، وهذا كله يعود لأسباب عديدة أبرزها العمل الفردي وغياب الشريك الحقيقي من صلب المتنفذين المجتمعيين أشخاص كانوا أم مؤسسات.

 تصور أنه قد فصلت ساعات قليلة فقط بين انتحار اثنين من البدون وكلمة رئيس مجلس الأمة في ندوته الشهيرة لتقديم مقترح قانون البدون، فإن كان فعل إنهاء الفرد لحياته احتجاجًا على سوء أوضاعه المعيشية لا يؤثر في ضمير الفريق المناهض للبدون فكيف سيكون مدى قبولهم للاستماع؟! 
الطبيعة الإنسانية لجزء كبير من الأشخاص تجعلهم أكثر إنصاتًا واستيعابًا لمشابهيهم من الأفراد، ذلك التشابه المبني وفق معايير ضيقة إنسانيًا تتعلق بالمستوى المعيشي والتطابق اللغوي والتناظر في الجنسية، وتعدد هذه الحالات عادة ما يخلق ما يعرف بالمجتمع السطحي، أي أنك إن كنت مختلفًا وطالبت بحقك الأصيل فيعتبرون هذا الأمر تهديدًا يطال صلب حياتهم، ومن هنا تخرج مصطلحات يمينية شعبوية- حتى وإن كان أصحابها يساريين- كالهوية الوطنية والتركيبة السكانية، لكنهم بالمقابل قد يعيدون النظر في الأمور إن كان الصوت القادم إلى مسامعهم يحمل مطابقة كبيرة معهم.

رئيس مجلس الأمة ووالدته نموذجًا

يؤمن البدون أن رئيس مجلس الأمة هو المناهض الأول لقضيتهم، ولا يكنّ أغلبهم ودًا لهذا الرجل، ولم يأتِ هذا الأمر من فراغ؛ فكل حديثه بشأن قضيتهم سلبي بل تعدى الأمر الحديث ليصل إلى جعل قضيتهم محور حملته الانتخابية الأخيرة من منطلق تصوير ماكينته الإعلامية له على أنه المدافع الأول عن الهوية الوطنية من البدون والمزورين، وعلى مقلبين من الحقوق الإنسانية فإن رئيس مجلس الأمة كان مناصرًا كبيرًا للقضية الفلسطينية عندما صاح بوجه وفد الكيان الصهيوني بـ"قتلة الأطفال" دون أن يحرك فيه ساكنًا انتحار طفل بدون بعد وقت قصير من ذلك، بل إنه واصل الترويج لقانونه "المسخ" والذي يعتمد على الاتجار بالبشر عبر تقديمه في مجلس الأمة مجددًا.

لكن رئيس مجلس الأمة نفسه الذي أدار وجهه عن كل معاناة البدون، وقع في فخ ما يعرف بـ هفوة لفظية ليست بريئة على الإطلاق عندما قال في مداخلته الشهيرة بمجلس الأمة السابق في موضوع الهوية الوطنية: أنا أستغرب ممن يدافعون عن البدون كالمنصة وغيرها "منصة الدفاع عن البدون"، أي أنه يعيش منذ ذلك الحين في قلق نشاط 3 أشخاص فقط قائمين على هذه المنصة ممن يتوافقون بمنظوره الضيق مع مستوى معيشته، وهو وفق ما يراه سيغموند فرويد مؤسس علم تحليل النفس: الهفوات الكلامية ليست بريئة بل تعكس رغبات حقيقية وأمنيات مدفونة في العقل الباطن.
ولا يعيش البدون وحدهم في باطن عقل الرئيس مرزوق وحسب، بل إن الحادثة الأهم كانت في 15 إبريل 2013 خلال المؤتمر الأول لعديمي الجنسية في الكويت والذي أقامته (مجموعة 29) عندما قالت الدكتورة فايزة الخرافي "والدة رئيس مجلس الأمة" للبدون الحاضرين إلى جانبها خلال إدارتها إحدى الحلقات النقاشية: أنتم منا واحنا منكم، ما في فرق أبد، واللي نقدر عليه بنسويه إن شاء الله".

ما كان للبدون أن يتواجدوا بشكل متناقض في حديث رئيس مجلس الأمة ود. الخرافي لولا وقوف شخصيات "كويتية" فعالة مدافعة عن هذه القضية وتعتبر خطًا دفاعيًا أساسيًا يحسب له حساب حتى في الدوائر الضيقة من تفكير صناع القرار خشية ردة فعلهم، طالما أن حتى انتحار البدون هو والعدم سيان عندهم.

بلاتفورم.. صحيفة ومنصة

ثلاث سنوات على عمر "بلاتفورم" المنصة، وعام على عمر "بلاتفورم" كمؤسسة إعلامية يفتخر القائمون عليها بانحيازهم إلى قضية البدون، ولربما بحساب بسيط نجد أن بلاتفورم هي أطول عمل جماعي-مؤسسي مهتم بالشأن "البدوني" بل إنها الجهة الوحيدة التي حافظت حتى الآن على إشراك أبناء البدون في قضيتهم إن كان بالكلمة أو في الحلقات النقاشية لبعض المواضيع المهمة.

وبخلاف أن "بلاتفورم" هي الجريدة الوحيدة -أقلها في الوطن العربي- المختصة بقضية عديمي الجنسية "البدون" التي جعلت مقدار وصول صوتنا عبرها أكبر بكثير من سنوات الأحادية التي كنا بها، فإنها منحتنا فرصة لمعرفة أمور عديدة منها القيمة الحقيقة للعمل الجماعي، والشعور بأن ثمة حياة ما زالت تدب في جسد المجتمع المدني عبر التفاعل بين بعض شخصياته ونشاط "بلاتفورم" منصة وصحيفة.
يرفض مؤسسو المنصة د. فهد المطيري ولمى العثمان ود. ابتهال الخطيب أن يحلوا محل البدون في الخوض في غمار البحث عن حلها، فهم- وعبر مواقف عديدة لسنا بصدد ذكرها- عمدوا إلى إشراك أبناء القضية في نقاشات مختلفة على الأصعدة القانونية والاجتماعية والإعلامية، والتي ساهمت في أكثر من جانب على إظهار تماسك "المجتمع البدوني" أكثر من أي وقت مضى رغم المساعي الحكومية التي تم ذكرها سابقة لشرذمة القضية إلى فئات عديدة.

في محاولته لإضفاء شرعية مجتمعية على قانونه، استقبل رئيس مجلس الأمة في أغسطس 2019 د. ابتهال الخطيب عضو المنصة بصفتها جهة مؤيدة للبدون، وأذكر هذا الموقف فقط في دعوة لمقارنة المواقف بين بيان المنصة المنشور عن اللقاء في 4 أغسطس من نفس العام وبين بيان الشخصيات الدينية خلال لقائهم رئيس الجهاز المركزي مؤخرًا، مع الأخذ بعين الاعتبار نفوذ الشخصيتين المضيفتين وأحادية الضيفة في مكتب رئيس مجلس الأمة وجماعتهم في مكتب رئيس الجهاز! 

مع بقاء السؤال عالقًا في أذهانكم: أيهم أقرب بنا إلى الله؟

بلاتفورم على وسائل التواصل الاجتماعي

اشترك معنا

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك أعدادنا أولًا بأول

كاريكاتير

news image
news image
news image
news image
news image
news image
عرض المزيد